محمد القصبجي .. العبقري الذي لم يأخذ الشهرة التي يستحقها
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السادسة من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر المرحوم محمد_القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق حيث الرواية الثانية لقصة اللقاء الأول بينه وبين كوكب الشرق أم كلثوم، واليوم نكمل الحديث عن مسيرة ذلك الموسيقي العبقري الذي لم يأخذ الشهرة التي يستحقها، والحقيقة أن دراسة حياة المرحوم محمد القصبجي بمعزل عن مشوار أم كلثوم قد يوضح أكثر قيمة هذا الرجل، إلا أنه لا يمكن بحال أن نفصل سيرة العملاقين عن بعضها، لذلك كان هناك دافعا بداخلي يدفعني للحديث عن المرحوم محمد القصبجي بعد انتهاء سلسلة كوكب الشرق، لذلك قد يفيدك عزيزي القاري أن تترجم سيرة وحياة ذلك الرجل بمعزل عن مشوار كوكب الشرق ولو في رأسك.
تفرد الموسيقار الكبير محمد القصبجي:
المتتبع جيدا لسيرة الموسيقار الراحل محمد القصبجى والمتوغل في أعماله، سيدرك جيدا أن هذا الرجل مختلفا كل الاختلاف عن أقرانه من الموسيقيين كالسنباطي وزكريا وعبد الوهاب وغيرهم فى التفكير الموسيقي بل وفي الجانب الاجتماعي أيضا، إذ لا يمكن بحال لذلك الرجل أن يبقى ضمن حيز واحد فقط من مقامات السلم الموسيقى الشرقى على غرار ما فعله المرحوم رياض السنباطى الذى كان ينوع ألحانه ضمن حيز مقام واحد من ذلك السلم، فضلاً عن أن القصبجى لم يقتبس أى لوازم موسيقية عن غيره من المؤلفين الموسيقيين العالميين كالذى فعله كل من الموسيقار محمد عبد الوهاب والموسيقار فريد الأطرش وغيرهما، لم يفعل المرحوم محمد القصبجى ذلك ليسخر نتاجه المدمج في نتاج آخرين عربياً، فتذيع وتنتشر إعلامياً وإبداعياً، ولعل ذلك كان أحد الأسباب التي قلصت شهرة ذلك الموسيقار الكبير المنطوي على نفسه والذي يعمل في هدوء.
إقرأ أيضًا…مع عرض فيلمها The Old Guard.. كيف تحولت تشارليز ثيرون من شقراء مدللة إلى نجمة أفلام حركة؟
شهدت أعمال المرحوم محمد القصبجى وفكرة المترجم فيها على مقدرته الغريبة في صياغة لوازم موسيقية أصيلة وصعبة، فضلاً عن إبداعه فى بناء جملة ألحان جديدة ومتماسكة مطوراً فى الألحان العربية ومجدداً فى الموسيقى الشرقية، والحق أن كثير من الموسيقيين في مصر والوطن العربي يرون أن محمد القصبجي هو الوحيد الذى طور الموسيقى العربية بأصالة واقتدار، وكان من قبله الموسيقار سيد درويش الذى سبقه بجيل فالقصبجى فى موسيقاه من الصعوبة بمكان أن يجد الأصوات التى يمكنها أن تصدح بها، وإذا كان الرجل قد وصل ذروته مع الست أم كلثوم فى رائعة رق الحبيب، فقد كانت ذروته أيضاً مع ليلى مراد فى أنا قلبى دليلى، تلك الأغنية الرائعة الخالدة التي وضع لها إيقاع الفالس الراقص، ووصل إلى قمة الإبداع فيما لحنه للفنانة أسمهان فى رائعتهما يا طيور، وقد أبدعت كل منهن فى ترجمة التفكير الموسيقي الخصب للمرحوم محمد القصبجي.
ربما نقفز بالأحداث والسنوات قليلا في مسار تلك السلسلة إلا أن إلقاء الضوء على مجمل نتاج المرحوم محمد القصبجى قد يكشف لك عزيزي القاريء قيمة وفكر هذا الرجل لتترجم ما حملته السنين والأيام للقصبجي طوال مشواره، وهو ما سنسرده تفصيلا في الحلقات القادمة، ربما كان علي أن أتحدث عن نتاجه خلال لعشرينات مع أم كلثوم وغيرها تبعا لتسلسل المشوار “زمنيا” بعد عام 1924 ولقاءه بأم كلثوم، إلا أن ما ستحمله تلك الطريقة في السرد من أفكار ربما ستتشابه مع مسيرة غيره إن كان القاريء مبتدئا أو لا يعرف صورة ولو عامة عن تاريخ محمد القصبجي.
نظرة على تطور الفكر الموسيقي لمحمد القصبجي:
نشرت مجلة المصباح في الذكرى التاسعة والثمانين لولادة الموسيقار محمد القصبجي والذكرى الخامسة عشر لوفاته تحليلا موسيقيا تناول مقدمة أغنية يا مجد ياما اشتهيتك والتي غنتها أم كلثوم سنة 1936م، من ألحان المرحوم محمد القصبجي، كنموذج واضح لتطور الفكر الموسيقي للموسيقار محمد القصبجي، وقد جاء فيه:
نرى بوضوح في مقدمة أغنية يا مجد ياما اشتهيتك هذا التطور العجيب، حيث تشعر بالمقدمة وكأنها رباعي كلاسيكي بجميع عناصره، اللحن البوليفوني، التطوير اللحني والهارمونيا، وهذا التطوير السيمفوني في اللحن نلاحظه بوضوح أكثر في اللازمة الموسيقية التي تسبق جملة “أشوف خيال الهنا” في مونولوج منيت شبابي، هذه اللازمة تأتي تطويرا للجملة التي تقدم كعزف منفرد على آلة العود، وبعدها هذه الجملة مع المعالجة الهارمونية على التخت، ثم جملة إمتي يا رب يتهنى قلبي، وهنا تأتي هذه اللازمة الكبيرة تطويرا موسيقيا ملازم لحركة الكاميرا في هذا المشهد من فيلم نشيد الأمل، الفتاة الفقيرة يحولها حلمها الطموح إلى فتاة غنية ومشهورة، فهذه اللازمة تحتوي على العناصر السيمفونية لحنا وتطويرا وهارمونيا وبوليفونيا وارتباطا بالموسيقى العربية وشخصيتها في شكل لا نراه في المحاولات السيمفونية العربية، على أن المهم في كل تجربة المرحوم محمد القصبجي الهارمونية البلوليفونية ليس استعماله لهذا العلم الذي يستطيع أن يستعمله أي حائز على دبلوم بل في قدرته الكبيرة والعظيمة على تسخيره في خدمة اللحن العربي والشخصية العربية للعمل الموسيقي.
لعل الفارق الكبير الذي ميز فكر القصبجي عن غيرة من كبار الموسيقيين هي قدرته على وضع الموسيقى المتطورة بصورة تثبت بصمته الخاصة دون إخلال بروح الموسيقى العربية، فمحمد عبد الوهاب وإن كان قد حجز مقعده في الصفوف الأولى من قائمة الموسيقيين المجددين إلا انه قد تأثر تأثرا كبيرا بالفكر الغربي الذي استقى منه تجديده والرجل لا يتحرج أبدا عن التصريح بذلك، والحق أنه ليس عيبا، أما المرحوم محمد القصبجي فقد وضع فكره في حيز آخر وسخر تلك النظريات التي قامت عليها حضارات موسيقية في استنباط أسس جديدة يقوم عليها التجديد الذي نسب إليه هو.
رحلت المطربة الكبيرة أسمهان ذات الصوت الأوبرالي الواسع إلى السماء عام 1944م قبل أن يبدأ النصف الثانى من القرن العشرين صفحاته، واعتبر المرحوم محمد القصبجي ذلك الرحيل علامة شؤم كبيرة لما سيحدث من متغيرات تاريخية فى الحياة، فرحل بموهبته الخصبة فى أعماقه، التى لم تستطع أم كلثوم أن تخرج ما تبقى منها بعد مونولوج رق الحبيب على ما سنتحدث في حلقات قادمة حول الوجه الآخر لعلاقة القصبجي بأم كلثوم، ولعل ذلك بفعل تأقلمها مع الصفحات الجديدة التى خلقتها عوامل وظروف عقد الخمسينيات، فسببت محنة نفسية وإبداعية حقيقية للقصبجى، على الرغم من أن محمد القصبجي لم يبخل على فنانات أخريات بأرق الألحان الرائعة، ومنهن: سعاد محمد، ونور الهدى وليلى مراد وغيرهم، ولم يكسر صمته إلا فى تلحين ثلاث قصائد وطنية غنتها كل من شهرزاد، ونازك، وفايدة كامل، ولكن بألحان عادية، فماذا حدث؟ لقد بقى جسمه شاخصاً أمامنا مع كل معاناته، ولكنه أبقى نفسه عن عمد وسبق إصرار عظيماً، ولم يهمه أبدا أن يجلس عازفاً على عوده فى فرقة كوكب الشرق على امتداد السنوات المتبقية من حياته بعد آخر ألحانه لها، ولا ندرى كيف كان يفكر موسيقياً فى تلك المرحلة الأخيرة من حياته، وهو يعزف بهدوء على أوتار عوده تلك الألحان الشجية التى كان يضعها زملاؤه بل وتلامذته من الموسيقيين ومنهم السنباطى ومحمد عبد الوهاب وبليغ، والحقيقة أن محمد القصبجي كان يتقبلها ليس على مضض بضغينة ما بداخلة بل على استحياء من كونه قد احتفظ لنفسه بموهبته وقريحته فى أعماقه، وربما كان القصبجي يبكى فى أعماقه ليس على ما يسمع من شدو كوكب الشرق أمامه، بل لما حدث من انقلاب في الموازين نقله من مكانة لأخرى مغايرة تماما.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال