محمد محي والرهان الدائم على الجمهور
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
لا يدرك المطرب محمد محي أن الجمهور أصبح يتعامل معه على أنه شئ من الماضي تستدعيه وقت الحاجة؛ ووقت التذكير بأننا كنا نمتلك مطرب يحلق خارج سرب الموسيقى السائد قادر على إدهاش المستمع في كل ألبوم يصدره.
رغم ذلك ومع كل تلك الإمكانيات يصر على الاختفاء والتعامل مع الغناء من بعيد لبعيد، وكأنه يراهن بشكل دائم على الجمهور وقتما يعود سوف يجده في انتظاره، والحقيقة هي لعبة أدمنها “محي” الذي تباعدت فترات إطلاق ألبوماته التي تتلخص في 9 ألبومات فقط مع ألبوم أخير غير معروف مصير بقية أغانيه، على مدار ثلاثين عامًا، وهو عدد قليل جدًا قياسًا على مطربين جيله ودون إغفال أنه يهتم بالكيف على حساب الكم.
قضى محي سنواته الفنية الأولى داخل شركة “صوت الدلتا” يحتك ويكتسب خبرات، يغني مع المجموعة أو يعيد تقديم بعض الأغنيات الناجحة التي أنتجتها الشركة مثل “ميال”، ثم تلكأت الشركة في تقديمه في ألبومًا منفردًا.. وكانت لا تقدم ألبومات مجمعة “كوكتيلات” على غرار بقية الشركات مثل “لقاء النجوم، نجوم الشرق”، لذا شد الرحال إلى شركة “هاي كواليتي” الناشئة والتي كانت تبحث عن اقتحام سوق الغناء بوجوه جديدة في ظل موجة الأغنية الشبابية المنتشرة على الساحة.
امتلك “محي” شخصية فنية مميزة جعلته يبحث عن الاختلاف وتقديم الجديد غير عابئًا بما يحدث داخل مشهد الغناء، ورغم أن أولى أغنياته الرسمية “ع البال والخاطر” كانت من ألحان وتوزيع عراب الجيل “حميد الشاعري”، إلا أنه لا يعتبر خرج من عبائته الفنية أو سار على نفس التوجه؛ بل قرر أن يحيد عنها بشخصية فنية مستقلة مستعينًا بحسام حسني، أحد نجوم شركة “هاي كواليتي”، و المنتشي بنجاح ألبومه الأول “لولاش”.
المطرب الحزين
مسارات “محي” الأولى في شريطي “أنا حبيت، ليه الحبيب” تنبأ عن مطرب يمتلك مشروعًا غنائيًا خاصًا، اهتمام بالكلمة وتنويع موضوعات أغانيه تجده يتعاون مع أفضل شعراء الجيل “عنتر هلال، محمد فضل، عبد الرحمن أبو سنة، مصطفى زكي”.
يهتم جدًا بجودة الألحان ويلحن بعض أغنياته بنفسه، مستمع جيد للتراث المصري لا يخشى من العودة إليه في الأغاني الرئيسية مثل “ليه الحبيب، بعتب عليك، ياريت” أو “أنا حبيت”، التي ظن في البداية أنها من الفلكلور واتضح بعد ذلك أنها لحن الممثل الكبير “سعيد صالح” سبق وأنه قدمه في إحدى مسرحياته. الشاهد أنه ومن البداية ظهر بصورة مغايرة تمامًا عن مطربي جيله، يفتش في القديم ويقدمه بصورة عصرية، بسيط غير متكلف في أغنياته المصورة، يمتلك نبرة صوت مختلفة تميل إلى الحزن لا يمتلك بالبلدي “حِس حلو” لكنه قادر على التعبير بشكل يفوق من هم أقوى منه في جودة الصوت.
في الشريط الثالث “اعاتبك” حقق “محي” جماهيرية واسعة جدًا، كانت فكرة جريئة أن تكون الأغنية الرئيسية للشريط أغنية حزينة درامية على عكس السائد في تلك الوقت من أغاني خفيفة مرحة تغازل جمهور الصيف وتناسب الأجازات، وهي سمة سوف تلازمه أغلب الوقت وتلصق به لقب المطرب الحزين، يستمر في التنقيب داخل الأرشيف الغنائي ويخرج لنا أغنية “حتى الهوى”، التي كتبها الشاعر الكبير “إسماعيل الحبروك” ولحنها “محمود رضا” يقدم لحنان من الفلكلور “حبينا جرحونا، تعبان يا قلبي” يتعاون مع صديقه المطرب “علاء عبد الخالق” ملحنًا في أغنية “صغير السن”.
سيطر “محي” على المشروع بالكامل مدعومًا بأفكار مختلفة من الشاعر عنتر هلال ومعه الموزع حسام حسني، الذي كان يعمل بأسلوبًا مختلفًا عن السائد بالاستعانة بـ الوتريات عند الحاجة لها مع استخدام الاّلات حية لا يعتمد كليًا على الموسيقى الإلكترونية، كانت تجربة مختلفة سطرت الفصل الأول من نجومية محمد محي وصنعت له جمهورًا خاصًا أصبح ينتظر أي جديد له.
مرحلة التوهج
واصل محي الطرق بقوة على أبواب النجاح والشهرة في شريطه التالي “روح قلبي” والذي حمل روحًا جريئة عن الشرائط السابقة مع الاحتفاظ بتماسك المشروع الأصلي، أغنية رئيسية حزينة “أهل الملامة” التعاون مع الشاعر الكبير “أحمد فؤاد نجم” في أغنية الصبر جميل، أغنية تغازل جمهور الصيف “الصيف”، ثم ختام الوجه الأول بأغنية رائعة في قالب الجاز “حلوة الحياة” قدم فيها إلى المشهد الغنائي الفتى المراهق “فهد” كموزع موسيقي لأول مرة في مغامرة جريئة جدًا.
واصل “محي” الجرأة في الوجه الثاني من الشريط مع الشاعر عنتر هلال في أغنية “ما اتمنيت” والتي تدمج المواضيع العاطفية والإنسانية في اّن واحد، ثم التعاون مع الشاعر الكبير “مرسي السيد” أحد أهم شعراء جيل الوسط في أغنية “نداء”، والتي كانت معالجة جديدة وصادمة لموضوع الخيانة بمفردات لم يكن أحد يجرؤ على تقديمها في ذلك التوقيت، قدم دويتو مختلف مع المطربة داليا في “قلبي عليك” من ألحان الليبي الكبير “ناصر المزداوي” في بدايات ظهوره داخل مصر، ثم الختام الأهم في أغنية “روح قلبي” البديعة جدًا والتي كانت عودة إلى الشكل الكلاسيكي في الغناء ومعالجة موسيقية شديدة الثراء من الموزع محمد عرام.
الإفلات من فخ روتانا
انتقل “محي” أواخر التسعينات إلى شركة روتانا حيث قدم شريط “أغلى الناس” الذي شهد ظهور أسماء جديدة على مشروعه الغنائي، اختفى حسام حسني من المشروع وحل بدلًا منه الثلاثي “طارق مدكور، فهد، محمد عرام”.
استمر “محي” في تقديم أفكار جريئة ومختلفة مع أغنية رئيسية حزينة “يا هوى”، وتناول مفهوم العاطفة بشكل متطور في “كل ما في، حبيبتي من غيرك” مع الشاعر مرسي السيد، وأغنية “لسه فاكر” شديدة الروعة والتي يصنفها بعض محبيه بأنها أفضل ما قدم على الإطلاق، مع بعض الأفكار غير التقليدية في “حبيبك التاني، موال الحنين” ثم الأهم هو التعاون مع الملحن الكبير “خالد الأمير” في أغنيتان “صدقتني، أغلى الناس” ثم الإخراج الموسيقي المدهش سواء من فهد في “لسه فاكر، باسمك حبيبي، آن الأوان” والتنويع ما بين الموسيقى الشرقية والغربية.
كان الشريط بداية تنويع “محي” في اختيارات الموزعين، ويحسب له أنه لم يقع أو ينهار مشروعه بسبب غياب الموزع الرئيسي حسام حسني عن الشريط بل تفصح عن امتلاكه القدرة على تجديد دماء التجربة والسيطرة عليها، وهي النقطة التي منحته تميزًا عن بقية المشاريع الغنائية التي سقطت بمجرد إيقاف حميد الشاعري على سبيل المثال.
شارع الهوى
في التجربة التالية المتمثلة في شريط “شارع الهوى” كان “محي” أكثر إدهاشًا، عنوان الشريط كان معالجة صادمة لموضوع ازدواجية المعايير بشكل صادم جدًا للمجتمع المحافظ، أغنية “صدفة” والتي كانت عبارة عن فيلم قصير جدًا يحكي موقف عابر لحبيبن إلتقيا بعد الفراق، الاعتماد على الموزع أشرف محروس في أربع أغنيات كاملة خرجت بشكل متطور موسيقيًا عن تلك الفترة في أغاني “لالي، حب تاني، صدفة”، والتي كانت تُنبِئ بأن “محي” كان يقرأ ويستشف التغييرات الموسيقية القادمة بالاتجاه نحو الغرب وبالتحديد الموسيقى اللاتينية.
الاعتماد على رفقاء الدرب محمد عرام وفهد وطارق مدكور ودخول ملحنين جدد على التجربة “رياض الهمشري، مصطفى عوض” جعل الشريط واحدة من التجارب الثرية جدًا في مسيرة “محي”، لكن وكعادتها شركة روتانا لم تهتم بالتسويق الجيد له؛ ما تسبب في انفجار المشاكل بينها وبين “محي” حتى الانفصال بشكل رسمي أثناء إعداد أغنيات الشريط الثالث.
الألفية الجديدة
بعد خلافات “محي” مع روتانا انتقل بعدها إلى شركة “فري ميوزيك”، التي كانت تزاحم في سوق الغناء بعدة أسماء قوية مثل “منير، خالد عجاج” وقررت أن “محي” سوف يكون الورقة الرابحة الثالثة التي سوف تكسر احتكار الشركات الكبرى مثل “عالم الفن، روتانا”.
في تلك التجربة اقتنص “محي” بعض أغنيات كان بصدد إصدارها مع روتانا، وخضع لبعض اشتراطات نصر محروس، مالك الشركة، في الاستعانة بالموزع أشرف عبده المُنتشي بنجاحات تجارية، وحافظ “محي” في الباقي على نسق تجربته الخاصة في أغاني “حاولت، ياللي بتغيب عليا، مالى النهارده” والأخيرة تعتبر دُرة أغنيات “محي” على الإطلاق.. من حيث الفكرة والإبهار الموسيقي.
لاقت التجربة نجاحًا تجاريًا كبيرًا سَرَّع من ظهور الشريط التالي “قادر وتعملها”، الذي كان أخر تعاوناته مع “فري ميوزيك”، في تلك التجربة الهامة جدًا حافظ “محي” على روح التجربة بأغنية رئيسية درامية “قادر وتعملها”، مع لمحات جريئة في “بس ارجع، خلينا أصحاب، كنا زمان، بتحب نفسك” واعتمد على أقوى ملحنين في سوق الغناء على رأسهم رياض الهمشري مع محمد رحيم ومصطفى عوض.
كانت فترة مهمة جدًا في تاريخ الأغنية المصرية حيث كان المشهد يعج بالأسماء الكبيرة “عمرو دياب، مصطفى قمر، إيهاب توفيق، راغب علامة”، مع ظهور أسماء جديدة دخلت في منافسة معهم “حماقي، تامر حسني، لؤي”، وكسر “محي” كل القواعد بأن احتفظ لنفسه بقاعدة جماهيرية كبيرة جدًا كانت تدرك إنه يمتلك تجربة مختلفة عن السائد ولا تخضع للمقارنات مع أحد.
رحلة سميرة سعيد من التجديد إلى التقليد
مظلوم أم ظالم
عاد “محي” للتعاون مع شركة “هاي كواليتي” في ألبوم “مظلوم” الذي يعتبر أكثر ألبوماته ثراء فنيًا من حيث تنوع الأفكار الشعرية والموسيقية، غاص “محي” في التراث الموسيقي ليقدم أغنية “مظلوم” للريس حفني أحمد حسن، التي استعان فيها بالمطربة الشعبية الكبيرة جمالات شيحة، وقدم أغنية “مستحيل تقدر تنسيني الليالي” للمطربة الكبيرة “لور دكاش” وقدمها بعنوان “شبابي رخصته”، مع تنوع في الأفكار الشعرية في أغاني “زي كتير، فاكراني بحبها، رخيص الهوا، طول النهار والليل” مع إخراج موسيقي ثري جدًا من “فهد، طارق عاكف، أشرف محروس، خالد عز” وهو الشريط الرسمي الأخير في مسيرته.
بعد ثورة يناير بدأ المشهد في التغيير وأصبحت هناك صعوبات إنتاجية في مقابل ازدهار الإنتاج المستقل وتجارب الأندرجراوند، دخل محي عدة تجارب فنية منها تجربة جيدة مع فرقة بلاك تيما في أغنية “الراوي” ثم الأغنية البديعة جدًا “مزيكا حزايني”، ثم أعلن عن إطلاق ألبوم جديد بعنوان “بتاع زمان” أصدر منه عدة أغنيات مثل “سهرانين، قضية، أنتي في دمي، فوضت أمري، بعدنا، بتاع زمان” لكن لم يتم استكمال الألبوم ويبدو أنه اكتفى بتلك الأغنيات.
في النهاية لا يمكن لوم “محي” بشكل كامل على تقصيره في حق فنه وحق جمهوره، في ظل المشهد الغنائي العبثي الحالي، حيث لا قواعد محددة للأغنية الناجحة ومع جمهور لا يميز الجيد من الرديء، لكن يظل المطرب الوحيد من جيله الذي يمتلك الإمكانيات التي تمنحه الاستمرارية وفي رصيده أغنيات عابرة للأزمان وصالحة للاستماع طول الوقت، لكن يبدو أن الشغف للغناء قل بالإضافة إلى رهانه الدائم على الجمهور.. لكن إلى متى سوف يظل الرهان صالحًا؟
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال