مراحل تطور التحرش في تاريخ مصر الحديث .. هل أفلام عادل إمام هي السبب ؟
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تبدو هناك مفارقة كوميدية حول التحرش في تاريخ مصر الحديث من حيث الكلمة، فقبل سبعينيات القرن الماضي كان التحرش الجنسي يندرج تحت لفظين «المعاكسة» و «المضايقة».
اقرأ أيضًا
دعوات ستر المتحرش “الدين الإسلامي بريء من أصحابها”
أما لفظة «التحرش» وحدها فكانت تعني مصطلحًا سياسيًا بمعنى احتكاك دولة بحدود دولة أخرى، وانتشر ذلك المعنى أكثر وأكثر زمن الحرب العالمية الثانية.
كيف تطور تاريخ التحرش في مصر الحديثة
على عكس ما يظنه البعض أن تاريخ التحرش في مصر الحديثة وُلِد خلال الـ 30 عامًا الماضية، فإنه ضارب في جذور التاريخ الحديث منذ مطلع القرن العشرين.
كان تبرج المرأة قديمًا ليس فاتحًا للشهية الجنسية وإنما كان يرمز للثراء فجرت جرائم السرقة جرّاء ذلك، منها الحادثة التي نشرته جريدة المؤيد المصرية في عدد 13 ديسمبر 1899 حيث قيام مجموعة من اللصوص بسرقة ذهب امرأة في الإسكندرية بعد تخديرها، وعلقت جريدة المؤيد بقولها « لأنها امرأة مشهورة بالتبرج والزينة وانصرفوا غانمين».
لجأت الحكومة المصرية إلى مواجهة التحرش بتعديل على المادة 226 من قانون العقوبات المتعلقة بحق الدفاع على النفس وذلك في 3 إبريل 1903 م وذكرت أن جريمة القتل العمد لا تنطبق على من المرأة التي تدافع عن شرفها سواءًا كان ائتيانها كرهًا أو بهتك عرضها.
رغم ذلك فإن التحرش بدأت نواته منذ مطلع القرن العشرين وأقدم شكوى من تحرش الرجال بالنساء جاء في ص 2 من عدد مصر الفتاة بتاريخ 29 ديسمبر عام 1908 حيث مقال قارن فيه الوضع بين تصرفات الرجال في الآستانة ومصر من حيث الاحتكاك بالنساء والتحرش بهن.
الأربعينيات بداية التحرش في تاريخ مصر الحديث فعليًا
تمثل مرحلة الأربعينيات البداية الفعلية للتحرش الذي كانت نشأته بالمعاكسة اللفظية، وزخر المجتمع المصري بالحوادث الأسبوعية.
لعل أول جريمة قتل بسبب التحرش في تاريخ مصر الحديث كانت في منطقة الوايلي ونشرتها جريدة المقطم في 13 فبراير 1943 م وكان الجاني متحرشًا واسمه حلمي محمد حيث اعتاد الجلوس في مقهى بمنطقة الوايلي واعتاد معاكسة الفتيات، فذهبت فتاة إلى قريبها واسمه حسن علي حسن لتخبره بالأمر فذهب للمتحرش وحذره من ذلك التصرف فما كان من المتحرش إلا أن يقتل الشاب.
كان الموتوسيكل وسيلة من وسائل التحرش في مصر حتى في بلاد الدلتا، ودليل ذلك شكوى قدمها شخص اسمه إسماعيل عصمت وعَرَّف نفسه بأنه من أعيان الزقازيق ونشرت جريدة المقطم شكواه في ص 6 من عدد 27 مايو 1948 وطالب بوضع حد لمسألة ركوب الشباب للموتوسيكلات لأنهم يقومون بجرائم ويتفاخرون بمعاكسة الفتيات.
مقاومة الفتيات للتحرش كانت ظاهرة قليلة الحدوث والسبب في ذلك الخوف من الفضيحة، ففي الأحد 2 يناير 1949 جرى موقف كان غريب على المتحرشين حيث قام شاب بمعاكسة فتاة لفظيًا فلم ترد، فقام بالسير خلفها ومد يده لكي يسلم عليها فقامت هي بمد يدها ليس للسلام وإنما صفعته على وجهه.
اقرأ أيضًا
التحرش والمرأة المستقلة .. نظرة محايدة
تلك الواقعة أفردت لها جريدة المقطم في 6 يناير من نفس العام خبرًا ويظهر منه أن الفتاة لم تكن تريد الذهاب للقسم بعدما شاهدها الضابط، وكانت حجتها أنها مرتبطة بموعد مع شقيقها فضلاً عن أنها لا تريد الفضائح ولولا إصرار الضابط لذهب حقها، حيث أخذهما للقسم وحرر محضرًا بالواقعة وذهب الأمر للنيابة التي أفرجت عن المتحرش بكفالة لكنها لم تبرأه وجرى الاستعداد لتقديمه للمحاكمة.
حملات القبض على المتحرشين كانت موجودة في مصر ولعل أبرزها الحملة التي قادها اليوزباشي مصطفى سامي في 15 أغسطس 1949 م حيث ألقى القبض على 17 شاب يعاكسون الفتيات في الشوارع.
جراء تلك الحوادث أعلنت جريدة المقطم بتاريخ 1 سبتمبر 1949 أن وزارة الشئون الاجتماعية في عهد علي بك أيوب تنتوي وضع دراسة مشروع قانون يحظر ارتياد الصغار والمراهقين والمراهقات دور السينما إلا في الأفلام الاجتماعية أو التاريخية وذلك صونًا لأخلاقهم من المناظر المؤذية في الأفلام، وذلك من أجل مقاومة ظاهرة التحرش.
كان اللقب المشهور للمتحرشين وقتها هو الكلاب الضالة وكان أول من أطلقه محمد أحمد هيكل المدرس الأول في مدرسة السويس الثانوية عبر مقال نشرته جريدة المقطم في 12 أكتوبر 1949 م.
اقرأ أيضًا
التحرش بالرجال .. عن المخفي في الأعراس المصرية
يلاحظ في المقال أن الرجل حمل شكاوى متعددة من الفتيات في كافة المراحل العمرية سواءًا بالمدارس أو الجامعات، ووصف شكل المتحرشين بأنهم كانوا يرتدون ملابس تثير الغثيان ويقومون بتصرفات غير لائقة من حيث الألفاظ النابية ونحو ذلك.
مرحلة الخمسينيات شهدت تطورًا من نوع خاص بجرائم التحرش في تاريخ مصر الحديث وهي الظاهرة الجماعية، ولم يكن للجناة سن معين بل كان شاملاً حتى تلميذات المدارس ففي 18 يونيو 1950 م نظرت محكمة السيدة زينب قضية مغازلة طالبات المدارس ومعاكستهن في الجيزة والإسكندرية وأسيوط وقضت ببراءة 12 شابًا من ارتكاب فعل فاضح مع تغريمهم ماليًا لاحتكاكهم بالفتيات لفظيًا.
بعد واقعة تلميذات المدارس بعامين وبالتحديد في 17 مايو 1952 تم إلقاء القبض على 30 شابًا في حملة أمنية بمدينة طنطا وتمت محاكمتهم جميعًا بتهمة معاكسة الفتيات.
التحرش الجنسي باليد .. البداية من سيد نصر
تطور التحرش من تصرف باللفظ إلى تصرف باليد في بداية السبعينيات وبالتحديد في نوفمبر من العام 1973 وكان أول متحرش باليد هو سيد نصر.
الصدفة وحدها هي من كشفت تلك الجريمة التي بدأت في شهر نوفمبر من العام 1973 داخل مستشفى بولاق العام، فالجاني كان طبيبًا مزيفًا، أما المتسبب في كشفه فكانت زوجته.
تغطية جريدة الأهرام للحادثة يوم 14 يناير 1974 م تفيد بأن الطبيب المزيف «سيد نصر» نجح في إصدار شهادة تخرج من كلية طب الأزهر مرفق بها خطاب تعيين من مديرية صحة غرب القاهرة مختومًا بـ ختم النسر الرسمي، ثم وزع الطبيب المزيف على مستشفى بولاق حيث تسلم عمله فعلاً في العيادة الخارجية لقسم طب الأمراض الباطنية وحجزت له غرفة خاصة وسط مساكن الأطباء لكي يقيم فيها.
طوال شهرين من عمله لاحظ أطباء المستشفى كثرة تردد الآنسات والسيدات عليه في المستشفى، وكل منهن تقدم نفسها على أنها على أنها خطيبته أو زوجته، كما لاحظ الأطباء طريقته غير الأخلاقية في الكشف على المريضات؛ غير أن أحدًا من الاطباء بما فيهم مدير المستشفى لم يشك في حقيقة أمره.
اقرأ أيضًا
لماذا لا تتحدث الناجيات من التحرش أو الإغتصاب؟
وفي 12 يناير 1974 تم اكتشافه عند نقل أحد المصابين للمستشفى وقيام بنت المصاب بزيارته ثم سمعت من ينادي الطبيب المزيف باسم «الدكتور سيد» وعندما استوضحت الأمر قيل لها أنه طبيب في المستشفى وكانت المفاجأة عندما كشفت الفتاة عن حقيقته.
وقالت أن سيد نصر عقد قرانه عليها وعندما اكتشفت أنه نصاب أخذ يساومها على أن تدفع 150 جنيه لكي يسلمها وثيقة الطلاق وعندما تأكد الأطباء من ذلك أبلغوا قسم شرطة بولاق وأمام عبدالمنعم إبراهيم وكيل النيابة روى الطبيب المزيف القصة كاملة.
تبين أن الدكتور سيد أو النصاب ضحك على 60 طبيب وطبيبة ومارس التحرش عبر امتهانه بالتزوير مهنة الطب خلال شهرين، وقرر عبدالمنعم إبراهيم وكيل النيابة حبسه أيام أيام على ذمة التحقيق وتكليف إدارة المستشفى بحصر تذاكر العلاج والأوراق التي حررها المتهم بوصفه طبيبًا.
عادل إمام هل هو المشكلة ؟
طوال 10 سنوات أخذ عادل إمام نصيب الأسد من أسباب التحرش، فقد اعتبر البعض أنه هو الداعي الرئيسي للتحرش والمتسبب الرئيسي له من خلال مشاهده.
غير أن ذلك يعتبر شيئًا غير منطقي من الناحية التاريخية، فبصرف النظر عن المشاهد من حيث أهميتها الفنية من عدمها، إلا أن سينما عادل إمام لم تكن هي السبب المباشر، وإلا لقلنا أنه قبل إنطلاقة عادل إمام لعبت شرائط الفيديو السينمائية للأفلام الأجنبية النازية دورًا في ذلك.
شركات الإنتاج الأجنبية ذات رأس المال اليهودي أرادت مواجهة فكرة إنكار الهولوكست من مصر بالتسويق لمحارق هتلر عبر الأفلام الإباحية في ذلك، حيث دعموا الأفلام التاريخية لمعسكرات الاعتقال النازية وكان أغلب الأفلام يتمحور في أسر فتيات يهوديات أو فتيات من بلاد احتلها الألمان وعرض ما يتعرضن له من تحرش واغتصاب في معسكرات الاعتقال، وتصدرت نجمة البورنو الأمريكية ديانا ثورون والمشهورة في أفلام الإباحية بـ «إيلسا وولف» قائمة الممثلات التي ساهمن في تلك الأفلام.
الأسباب الحقيقية للتحرش
في الفترة من 2018 لـ 2021 انهارات عدة ثوابت لدى البعض بشأن التحرش، فالتبرج الذي كان شماعة لم يكن سببًا في ذلك بدليل أن محجبات وطفلة تم التحرش بهن، والحرمان الجنسي من الشباب لعدم زواجهم هو الآخر لم يعد سببًا كون أن أغلب المتحرشين الذين ألقي القبض عليهم كانوا متزوجين، بالتالي فإن حصر أسباب التحرش في عادل إمام أو السينما يبدو سطحيًا بعض الشيء، لأدلة واقعية عايشناها، ولأدلة تاريخية استعرضناها.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال