مسلسل لام شمسية.. المجتمع أمام مرآة قاسية

«المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده»، هكذ قال ابن خلدون ليلخص جوهر الصمت الجماعي عن الجرائم التي تنخر في المجتمعات، فالتقليد لا يقتصر على المظاهر، بل يمتد إلى السكوت عن القبح كما يسكت الغالب، والتهرب من المواجهة.

وواحدة من تلك الجرائم التي تتوارى خلف جدار الصمت هي التحرش الجنسي بالأطفال، حيث يتحول الجاني إلى ظل يتخفى بيننا، بينما يُجبر الضحية على الانزواء في ركن مظلم، بلا صوت ولا نجدة.

في السنوات الأخيرة، بدأت محاولات خجولة لكسر هذا التابوه، وظهرت إحدى هذه المحاولات في المناهج الحديثة بالصف الرابع الابتدائي ،إذ أصبح الطفل يتعلم الفرق بين «اللمسة الحلوة واللمسة الوحشة»، وكأننا نهمس له بأن العالم ليس آمنًا كما ظن.

اقرأ أيضًا: ملف تحرش محفظي القرآن.. كيف تهزم طفلك في لحظات

وعلى الجانب الآخر، جاء الفن ليُسقط ورقة التوت عن المسكوت عنه، حيث اختار مسلسل “لام شمسية” في النصف الثاني من الموسم الرمضاني 2025 ليغوص في المستنقع الذي يرفض الجميع رؤيته، فكشف بشجاعة عن واحدة من أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا في مجتمعاتنا.

لماذا يخاف المجتمع من المواجهة؟

لطالما كانت المجتمعات تفضل التستر على الجرائم الجنسية ضد الأطفال، مدفوعة بثقافة العيب والخوف من الفضيحة، وكأن الصمت يمكنه أن يمحو الجريمة بدلًا من مواجهتها، هنا جاء دور سعدي _جوهر لينتج مسلسل “لام شمسية”، ليس فقط كعمل درامي، بل كبيان درامي صادم، يفتح نافذة على العتمة، ويجبر المشاهد على مواجهة الحقيقة، ومن المفارقات أنه وقبل عرض المسلسل بأسبوع تعرضت فتاة صغيرة لهتك عرض على يد رجل أربعيني داخل حمام مسجد بنهار رمضان، وكأن الواقع يسبق الدراما في قسوته.

المسكوت عنه بلا مواربة

في اللغة العربية، اللام الشمسية تُكتب ولكنها لا تُنطق، تمامًا كما تُدفن الحقائق القاسية دون أن يتجرأ أحد على الحديث عنها، وفي المقابل، اللام القمرية تُنطق بوضوح، كما يجب أن يُكشف المسكوت عنه بلا مواربة، وقد جاء اختيار العنوان “لام شمسية” لم يكن مجرد تلاعب لغوي، بل كان رسالة مشفّرة عن تلك الجرائم التي نعرفها جميعًا، لكننا نمر بجوارها كما لو كانت غير موجودة، تتجلى هذه الفكرة في مشهد محوري حين يغني الطفل “يوسف” ابن طارق (أحمد السعدني) مع نيللي (أمينة خليل) أغنية يحفظها له أستاذة الجامعة صديق والده المتحرش:

«لام شمسية .. ولام قمرية .. واحدة نقولها وواحدة خفية .. الشمسية متخبية .. زي السر وزي الذنب».

في هذه الجملة البسيطة، تكمن الفكرة المركزية للمسلسل، كيف يتحول المسكوت عنه إلى وصمة تدمر الأفراد والمجتمعات، وكيف يصبح الصمت تواطؤًا غير معلن، يحمي الجاني ويدين الضحية.

ومن ناحية أخرى لم يعتمد المخرج كريم الشناوي على الصدمة المباشرة، بل لجأ إلى السرد البصري العميق، حيث تحكي الصورة ما تعجز الكلمات عن قوله، فالمشاهد الصامتة في الحلقة الأولى بين (وسام) و (رباب) ليست مجرد تصوير لعلاقة زوجية مختلة، بل هو نافذة تطل على نفسٍ معذبة، حيث لا تُبنى العلاقة على الحب، بل تتحول إلى ساحة لتفريغ اضطرابات مكبوتة، ليكشف العمل عن دورة خفية من القهر يعيد فيها الضحية إنتاج العنف، باحثًا عن فريسة أضعف.

إقرأ أيضا

حوار مع محمد خالد مدير مهرجان الفيمتو أرت: نجحنا في تطوير المهرجان وأنا متفائل للفيلم القصير

أما طارق (أحمد صلاح السعدني)، فيمثل النموذج الأكثر شيوعًا في المجتمع؛ رجل يرتدي قناع الاتزان، بينما يختبئ خلفه انهيار داخلي. هو ليس مجرد شخص يواجه ضغوطًا، بل حالة إنسانية تعكس مجتمعًا يجبر أفراده على لعب أدوار مثالية زائفة، حتى تتحول هذه الازدواجية إلى قنبلة موقوتة.

لا يقدم مسلسل لام شمسية صورة نمطية عن الجاني، بل يتعمق في الجذور النفسية والاجتماعية التي تصنعه، ليكشف كيف تتحول البيئات القمعية، التي تضع الجنس في خانة المحرمات، إلى مصنع للأمراض النفسية والانحرافات الصامتة. هنا، لا يُرسم المتحرش كوحش منفصل عن المجتمع، بل كنتاج لمنظومة تزرع القمع وتحصد التشوه.

وبعد 3 حلقات يمكننا القول أن مسلسل لام شمسية لا يطرح القضية كدعوة للتعاطف أو الإدانة، بل يضع المجتمع أمام مرآة قاسية، جاء ليهدم جدار الإنكار، ويضعنا أمام السؤال الأصعب: هل نملك الشجاعة لمواجهة الحقيقة، أم أننا سنواصل التستر حتى نجد أنفسنا داخل المأساة؟