ملامح الحقبة الكورونية
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
سوف يحكي قادمون عن ملامح الحقبة الوبائية التي نعيشها الآن، بتفاصيل دقيقة، حينها سوف يكون الغطاء قد انكشف عن الحقيقة غالبا، وذلك سوف يساعدهم تماما على رسم صورة أوضح لما جرى، صورة مهما كانت بلاغتنا وبلاغة أيامنا الحالية فلن نستطيع رسمها كما قد يرسمونها هم بعد ذلك؛ لأننا في قلب الخوف والمعاناة، ولأنهم لن يكونوا كذلك في مرحلتهم القادمة، حين ينتوون التفرغ لما كان من جملة أحوالنا مع الظرف الوبائي الاستثنائي الخطير، وحين ينتوون التصدي لصعوبات حقبتنا الراهنة وسلبياتها وما كان فيها من الأمور الإيجابية أيضا. سوف تكون لديهم مراجع كثيرة عندما يبدؤون في رصد فترتنا هذه في زمنهم اللاحق، من بينها ما نكتبه بهذا الشأن بلا ريب؛ لذا علينا أن نكتب بصدق تام وأمانة كاملة.
الحقبة الكورونية
فرض كورونا نفسه علينا فرضا؛ فصبغنا بصبغته وجعلنا تابعين مخلصين له، في الوقت الذي نظن فيه أنفسنا مقاومين له وفارين منه فرارا، نصحو وننام متكلمين في سيرته وحالمين بأطيافه المؤرِّقة، ونرتدي ما يحب هو أن نرتديه لا ما نحب نحن ارتداءه، وقد نخطط لسيرنا في الشوارع بحسب علمنا بقوته في منطقة وضعفه في أخرى، بل قد نغير الإقليم الذي نعيش فيه نفسه لو أقام به كثيفا إلى إقليم قلَّ وجوده بساحاته، إذا كان الأمر باستطاعتنا طبعا، وأخيرا نمكث في بيوتنا، صابرين أو متذمِّرين، في انتظار أن يقال لنا: اخرجوا؛ لقد غادر سجَّانكم العالم!
المستشفيات لم يعد فيها سرير لوافد جديد، والأدوية ناقصة، وأجهزة التنفس الصناعي منعدمة، وثلاجات الموتى كاملة العدد في الأغلب، والأطباء أنفسهم من أكثر المتضررين من الفيروس المستجد، وطواقم التمريض، والمشتغلين بأماكن الاستشفاء عموما، ومن جهة ثانية فإن العلماء والخبراء في صراع ضارٍ مع الزمن لحسم الموضوع، والمؤسف أن أقوالهم متضاربة، كما أن منظمة الصحة العالمية نفسها، وقد كانت الملاذ في مثل هذه الظروف الحسَّاسة المعقَّدة، صارت مؤسسة لا يعوَّل عليها، وفقد المعتبرون الأكثرون ثقتهم فيها نظرا لتخبطها الشديد، بل الإحساس الغالب بتورطها مع كيان شَرِس مجهول في أفعال مشينة.
إقرأ أيضًا…نحن لسنا أسماك ولن نحارب بالوكالة.. فلمن تتحدث بسمة وهبة ؟!
حين انخفضت معدلات الإصابة بالفيروس في بلدان معينة مؤخرا، بالإحصاءات الرسمية، وقع الأمر موقع الشك في نفوس الخلق، وسقطت الجداول الحكومية من أعينهم سقوطها الأخير، وقال الناس إن البيوت ممتلئة بالموبوئين والقبور مكتظة بالضحايا.
أيضا لم يعد الناس يعرفون هل الكحول مفيد فعليا أم لا؟ وهل الكمامة ضرورية حقا، والجوانتي، أم جُعِلَا في الضرورة لأمرٍ مّا؟ ضجر الناس من الماء والصابون أيضا واحتياطات النظافة عموما، وانغلاق الأحضان، واتساع المسافات التي تفصل بينهم، وفي الوقت الذي تدَّعي فيه دول عثورها على اللقاح تزعم أخرى أن اللقاح فكرة وهمية للتهدئة!.
ماذا سوف يقال عن الحقبة الكورونية في زمن قادم؟.. سوف يقال إن أهالي الموتى تخلوا عن موتاهم، وكم كان الوضع صادما ومهينا، وإن طقوسا بديهية كصلاة الجنازة وتوديع الجثث، لم تعد قائمة، وإن خلقا كثيرين تشاءموا من ذلك، وعدُّوه انسحابا لمعنى الرحمة نفسه من الأرض!.
لاريب سوف يقال إن الوهم قتل الناس قتلا قبل أن يقتلهم المرض الوبائي، ليس المقصود بذلك أن الفيروس الذي ظهر فجأة وفشا فشوًّا هائلا في عام 2020 لم يكن حقيقيا، لكن أن حقيقته (أيًّا كانت) ضاعفها عدم تحديده، وأن ضيقه المحتمل وسَّعه الفشلُ المستمرُّ في إيجاد حلٍّ له، كما فتح أبواب الهلع منه على مصاريعها معلومات عن إمكانية تحوره وتطوره وطول مدة بقائه ومن ثمَّ انتشار ثقافة العدم بسببه.. سوف يقال ما هو أكثر بالتأكيد عن طبيعة ما جرى وماهيَّته، وسوف يكون في مجال الحسم حينئذ إن كان شيئا صنعته الأقدار، لحكمة معيَّنة، أو إن كان اختراعا بشريا محضا وراءه مؤامرة دنيئة.. ولن يخلو الكلام أبدا من تغيرات مجتمعية (إيجابية وسلبية) طرأت ومن خسائر اقتصادية فادحة حصلت، ومن تقييمات نفسية لما تعرض له الكبار والصغار من المشكلات الصعبة والهزائم المريرة.
إن استنتاجنا لما يمكن أن يقال في المستقبل، عن الحقبة الكورونية هذه، يجب أن يخدم واقعنا الحالي، وهذه خلاصة ما أود قوله هنا، ولكل ذي عقل وضمير أن يتفهم ما أعنيه بلا زيادة ولا نقصان. إننا ضحايا فعليون لطغيان العاطفة الجامحة على العقل ولتشوُّش الضمائر بالماديَّات الكثيفة فوق المعقولة، بؤسنا من هذه النقطة ومصارعنا فيها، وإصلاح طرق التفكير ضرورة لتجاوز المأساة وإحياء الضمائر بالمثل، لا ينفصمان، إلا لو كان مرادنا الفناء!.
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد