ملامح مما قدمه العمدة المثقف صلاح السعدني
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
هي روح شكَّلَتْها مجموعة من الظروف والحظ الواسع؛ قهوة عبد الله بتجمعات كُتَّابِها ومن بينهم الولد الشقي عمنا “محمود السعدني”، سحر شوارع الجيزة وأهلها، جذور ريفية بالمنوفية، وموهبة صادقة وحقيقية زرعها الله به فأنبتت سنابل من عطاء للفن أدهش جمهوره على مدار تاريخ فني طويل.
“صلاح عثمان إبراهيم السعدني” المعروف جماهيريًا بـ “صلاح السعدني” أو “العمدة” الذي لا يخلو بيت إلا ويذكر له مشهدًا حفره من وجدانه لينقله لوجدان المشاهدين.
وعند الكتابة عن قامات الفن المصري -ومنهم صلاح السعدني- يجب أن تقف حائرًا، وتجد قلمك قد أصبح في معضلة. من أين تبدأ؟ … من مشاعرك تجاه النجم الذي عشت معه طفولتك، وشبابك الذي سلمك فيه بأعماله إلى باب الجامعة وحتى باب الحياة العملية والتخرج؟ … أم من كتاباتك عن تاريخه الطويل والشخصيات التي قدمها؟
إذا تركنا للقلم العنان كي تتدفق مشاعرنا تجاه كل من نحب من المبدعين فستدفق الكلمات – بكل تأكيد- بلا توقف. وبالطبع لن يسعنا مقال واحد لذكر تاريخ الفنان الكبير كله؛ لذلك سنتناول الحديث عن أشهر الشخصيات الدرامية التي قدمها على الشاشة، كيف برع في أدائها رغم اختلافها عن بعضها البعض، وما هي الملامح التي تحملها من شخصيته.
“سليمان غانم” العمدة الظريف
لم يأتِ سليمان غانم من بنات أفكار أسامة أنور عكاشة وحده، فقد كانت بعض من ملامح شخصيته من عمدة قرية عائلة “السعدني” بالمنوفية بمركز الباجور بقرية القرينين واسمه العمدة “معوض”
والمفاجأة أن ملامح واضحة أخرى كانت من صفات أهم كاتب ساخر في العصر الحديث؛ عمنا محمود السعدني.
ولو بحثت بموقع يوتيوب عن لقاءات عمنا محمود السعدني لوجدت بعضها بقفطان وطاقية فلاحي، يجلس بشموخه المعهود وسط مجموعة من الفنانين، وقد كان حلمًا من أحلامه -كما كتب بمذكرات الولد الشقي- أن يعود للقرية وسط البط والأوز والزروع، وأن يرتدي القفطان والطاقية، وقد حقق جزءًا من أحلامه بأن ارتدى ما يريد حتى بعدما أصبح رئيسًا لتحرير مجلة صباح الخير.
محمود السعدني..روح مصر الطيبة التي لم تغادر أبدًا
وقد قرر صلاح أن يأخذ بعضًا من ملامح شخصية أخيه؛ فقام بإضافتها إلى شخصية سليمان غانم، فخرجت لنا هذه الشخصية بهذا الشكل الذي لن ننساه.
الشخصية التي تحب النكتة، الشخصية التي ترفع الكلفة بينها وبين الناس، وتطلق عليهم ألقابًا تناسب شخصيتهم، أو تناديهم بسباب يناسب طبيعة العلاقة بين الأصدقاء الذين يرفعون الحواجز بينهم.
سليمان غانم الذي تقوده عصبيته دائمًا لإفيه ينهي المناقشة أو الخلاف، والذي يرتدي القفطان والطاقية ويتمسك بجدعنة أهل البلد؛ كل هذه الصفات كانت في الكاتب محمود السعدني، بل وتوجد بشكلٍ مختلف بشخصية صلاح نفسه.
إن الممثل الذكي لا يتوقف عند حدود ما رسمه السيناريست للشخصية، ولكن يضيف إليها بعض الملامح المناسبة التي تنقل هذه الشخصية من مجرد شخصية كُتبت على الورق لشخصية من لحم ودم يصدقها المشاهد.
وقد تعلق المشاهد بالفعل بتركيبة سليمان غانم؛ الشخص الذي يفتقر لقواعد الذوق أحيانًا، ولكن لا يفوته واجب، ولا يقصد أبدًا إيذاء الآخرين بكلامه وإن خرج كقصفة مدفعية ورآه البعض “جلياطًا” كنازك السلحدار.
فكان الجمهور يغفر أي شيء لسليمان غانم مقابل خفة دمه وتلقائيته في التعامل مع الآخرين حتى مع من يختلف معهم.
والمسلسلات التي تكثر أجزاؤها تقع في مخاطرة كبيرة؛ مثل ألا يستمر نجاحها وألا يستمر تعلق الجمهور بشخصياتها. ولكن كانت الشخصية الأكثر تماسكًا بهذا المسلسل هي شخصية سليمان غانم.
ونجاح هذا التماسك يرجع لأداء السعدني الذي جعل تطور الشخصية على مدار الخمسة أجزاء بين عينيه.
فسليمان غانم بالجزء الأول يختلف عن الجزء الثاني، وعلاقته بابنه البكر تختلف عن علاقته بابنته زهرة.
وسليمان في شبابه يختلف تمامًا عن سليمان في سن الكهولة؛ ففي الجزء الخامس نجده قد ازداد عنادًا بخفة دم مختلفة، وضحكة مميزة لا ننساها تعبيرًا عن مرحلة الشيخوخة التي يمر بها الإنسان، وتحوله لطفل كبير يرى الحياة بحكمة ونظرة مختلفة؛ ويظهر هذا في نصائحه التي كان يهديها إلى زهرة في الجزء الأخير.
وقد استعرضت من قبل بمقالٍ آخر سر تعلقنا بسليمان غانم وبعلاقته بوصيفة (الفنانة إنعام سالوسة) وتطور شخصيته وعلاقته بأبنائه وبمن حوله، فيما سنتعرض بمقال مختلف عن علاقته بسليم البدري (يحيى الفخراني)
خمسة أسباب جعلتنا نقع في حب سليمان غانم ووصيفة
حسن أرابيسك الفنان بالفطرة
التمثيل هو تلك القدرة على إيجاد تيار شعوري من الانفعالات والمشاعر ثم عكس هذا التيار من خلال أدوات التعبير، ولعل ما يفرق بين الممثل الموهوب من الممارس والمؤدي للتمثيل؛ طريقة تسخير أدوات التعبير بشكل صحيح والتي تجعلنا نصدق الشخصية.
ويكون الموهوب متمكنًا من أدواته، واثقًا من نفسه وأدائه، وتصله انفعالات الشخصية ومشاعرها فيصدقها وينقلها للمشاهد.
وعلى الرغم من تاريخ السعدني في المسرح إلا أنه نجح في الأداء الدرامي بالتلفزيون بعيدًا عما تتطلبه طبيعة التمثيل بالمسرح؛ فنجد أن بعض الممثلين “المسرحجية” يقعون في مشكلة المبالغة والتكلف عند التعبير على الشاشة وأمام الكاميرا؛ فالمسرح يتطلب صوتًا عاليًا وتركيزًا مختلفًا مع لغة الجسد لأن الممثل يحتك بالجمهور بشكل مباشر.
وعندما تتابع شخصية أرابيسك وتقارن بينها وبين شخصية سليمان ستتأكد أنك أمام ممثلٍ موهوبٍ يستطيع استخدام حركات الجسد وتطويعها من أجل الشخصية.
وبالأخص استخدام الصوت، وهو من أدوات التعبير التي تظهر الممثل الموهوب عن دونه. فسليمان غانم كان يعلو صوته ويتشاجر بنبرة صوت تختلف عن هذه النبرة التي يستخدمها أرابيسك حين اشتباكه مع أحدهم بخان دويدار.
وقد أضاف السعدني للشخصية بعض اللزمات التي لم يستخدمها سوى في مشاهد بمحلها، واستخدام اللزمات يحتاج لتركيز وإلا أصبحت سمجة لا محل لها من الإعراب كما يفعل بعض الممثلين الآن.
فكما كان يقول سليمان غانم: “جااااي” و“قووووم إيه” و “على ما أذكر” ، فتجد أرابيسك يكرر “يوووه يا فلان” تعبيرًا عن الملل من الجدال أو الغضب.
وقد وضح السعدني في لقاء له مع المذيع “مروان صواف” أنه لا يخرج عن الحوار إلا بالقليل الذي يتفق فيه مع صُناع العمل دائمًا ويُناسب الشخصية والمشهد.
وحسن أرابيسك من أكثر الشخصيات التي جسدها الكبير صلاح السعدني وتقترب لسمات شخصيته؛ الشهامة، الاعتزاز بالكرامة وبالنفس، التمسك بالمبدأ والإيمان بالفن.
كلها صفات للفنان السعدني نفسه، ورغم ذلك فقد نجح في خلق شخصية جديدة من إخراج “جمال عبد الحميد” وكتابة السيناريست أسامة أنور عكاشة الذي تعاون معه في أكثر من عمل.
الأستاذ الحسيني رضوان
نحن الآن عام 2002، حيث عرض مسلسل “رجل في زمن العولمة” تقريبًا بعد عرض مسلسل “أرابيسك” بتسع سنوات.
وببداية الألفية الثالثة كنا نتأقلم مع دخول التكنولوجيا حياتنا، وقد أثر ذلك على العلاقات بين الناس، وهذا ما استغله السيناريست والمخرج “عصام الشماع” كي يناقشه بالمسلسل ويضع تصوراته للمستقبل مع تطور التكنولوجيا.
ويضعنا السيناريو أمام بطله الأستاذ الحسيني الذي يتمتع بحكمة كبيرة في التعامل مع أولاده في ظل هذا العصر دون تسلط منه، وله مبادئ لا تبتعد كثيرًا عن مبادئ أرابيسك في الحياة.
ويتمتع الحسيني بحساسية مختلفة وحس رومانسي وهذا ما فاجأنا به السعدني بتجسيده لهذه الشخصية التي اختلفت عن الشخصيات التي قدمها من قبل بالدراما التلفزيونية.
ويعتبر مشهد التداعي الحر الذي فعله الحسيني لأفكاره بعد وفاة زوجته من أهم المشاهد التي أتحفنا بها.
فيبدأ الحسيني في التحدث بملامح ممتزجة بالحزن لصديقه الدكتور شوقي (الفنان شوقي شامخ) ويشرح كيف يمكن للإنسان أن يبكي من الداخل، ثم تبدأ الدموع في خيانته بهدوء وعلى استحياء، حتى ينهار تمامًا الرجل الحكيم أمام حزنه على وفاة حبيبة عمره ويطلق سراح الدموع المكبوتة حتى تحرره من مشاعره الحبيسة تحت محاولاته الصمود أمام أولاده.
وإن كان أرابيسك مُحبًا للفن بالفطرة والوراثة ويتمسك بعادات أولاد البلد، فهو يشبه الحسيني رضوان في حبه للفنون وتمسكه بالمبادىء بشكل أعمق.
فالحسيني له قناعات منها ما كان أيضًا بالوراثة وعن طريق تربية البيئة من حوله بالجمالية، ولكن في نفس الآن طورت ثقافته هذه القناعات.
يحب الحسيني الفنون كأرابيسك ولكنه أكثر ثقافة وأكثر ولعًا بالأدب والشعر، فلا يستمع لأغنية لأم كلثوم إلا وهو يحفظ عن ظهر قلب صاحب ألحانها وكلماتها.
منة البزاوي..أرسل لي جدي رسالة شكر بالمنام وأبي مكتبة متنقلة وأخي مثلي الأعلى
وهذه الصفات ما هي إلا صفات المبدع السعدني نفسه الذي كان على درجة كبيرة من الوعي والثقافة وحب الأدب، بل إن الحسيني بلغة جسده يشبه إلى حد كبير صلاح السعدني عندما يتحدث ويستمع له الآخرون.
وعلى الرغم أن كل شخصية ذكرناها كانت تحمل بعضًا من ملامح شخصية السعدني، إلا أنه شكل بأدائه شخصيات مختلفة عنه على الشاشة ومختلفة عن بعضها البعض أيضًا.
وقد قال عمنا محمود السعدني:
“المثقف الحقيقي هو من يعيش حياة الناس ويعبر عنها بطريقة بسيطة، والذي يفهم بياعين الفول الحراتي والعسلية والدرة المشوي قبل ما يفهم فولتير وهيجل وماركس وسارتر”
وقد أضافت الثقافة للسعدني الكثير في التحضير لكل شخصية يدرسها ويقدمها لنا، كما حققت عائلة السعدني كلها هذه المقولة بكسر الحاجز بينهم وبين العامة من خلال تأثيرهم في الناس؛ فكما يتحدث الناس عن محمود السعدني بلقب عمنا، يتحدث الناس عن صلاح بلقب “العمدة” وسيظل شعورنا تجاهه كما لو كان بالفعل كبيرًا لكل عائلة مصرية تحبه بصدق وتعشق السعادنة.
الكاتب
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال