ملف أزمة الأغنية المصرية 3 : التوزيع الموسيقي … عصر الموسيقى البلاستيك
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في عصور سابقة لم يكن المستمع على دراية كافية بدور الموزع الموسيقي في الأغنية، غالبًا ما كان يتوارى أسمه في الظل ولا يذكر إلا على مضض ودون توضيح دوره المهم الذي يكمل عناصر الأغنية الأخرى، ببساطة شديدة الموزع الموسيقي هو من يقوم باختيار وتنسيق الالاّت الموسيقية وتوزيع أدوارها، يحدد الإيقاع وسرعته وطبقة الغناء ويضع لمساته على اللحن الأصلي بخطوط لحنية موزاية تضفي دسامة على العمل كله، وأحيان كثيرًا ما يكون مسئولًا عن المقدمة واللوازم والفواصل الموسيقية باختصار يمكن اعتبار الموزع الموسيقي هو مخرج الأغنية والمسئول عن الشكل النهائي الذي تخرج عليه.
قد يظن البعض أن مهنة الموزع الموسيقي ظهرت متأخرة وأن الأعمال الغنائية القديمة لم تكن بحاجة إلى موزع او منفذ موسيقي لكن الحقيقة أنه مع التطور الكبير الذي حدث في شكل الأغنية المصرية في بداية القرن العشرين على يد خالد الذكر سيد درويش كانت هناك إرهاصات مبكرة للتوزيع الموسيقي ثم جاءت النقلة الأهم على يد القصبجي ومحمد عبد الوهاب والتي نتج عنها ألحانًا كانت بحاجة إلى فرقة موسيقية كبيرة الحجم لذا اختفى التخت المكون من عدد قليل من العازفين وظهرت الفرق الموسيقية الكبيرة وهنا كان لابد من وجود موزع موسيقي يستطيع التعامل مع تلك الألحان الجديدة والمليئة بالإنتقالات المقامية حتى يبرزها بشكل يبرز تطورها.
في تلك الفترة برزت أسماء موزعين كثيرين منهم “عزيز صادق، ابراهيم حجاج” حيث قاما بتوزيع أغلب ألحان محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب حتى تسلم منهم الراية الجيل الأشهر في مضمار التوزيع الموسيقي مثل “أندريا رايدر، فؤاد الظاهري، على إسماعيل، ميشيل يوسف” حيث سيطروا على مهنة الموزع الموسيقي حتى ستينات القرن الماضي.
العودة إلى التخت في صورة جديدة
مع الثورة الموسيقية التي حدثت أوائل السبعينات والتي بدأت معها خفوت نجم الأغنية المسرحية الطويلة بدأت الفرق الغربية الظهور بكثافة داخل مشهد الغناء، عاد التخت البسيط في صورة جديدة عرفت بالـ Band مع تغيير في نوعية الالأّت حيث تكونت من الالاّت غربية مثل “الجيتار الكهربائي، الكيبورد، الدرامز، الالاّت النفخ النحاسية، الباص جيتار”.
كانت ألحان تلك الفترة بسيطة خالية من التعقيد تخلو غالبًا من الثلاث أرباع تون الشرقي وجعل مسألة تنفيذها أبسط حيث ظهر مصطلح التنفيذ الموسيقي أكثر من التوزيع وكان يتم توزيع الأدوار على أعضاء الفرقة أو الـ Band على حسب طبيعة كل أغنية، لن تجدد خطوط هارمونية كثيرة، قوالب غربية في التنفيذ مثل الروك والجاز والبلوز والبوب، برز في هذا المشهد فرق عديدة مثل المصريين والحب والسلام وطيبة والجيتس ثم كانت الشهرة الأكبر لـ فرقة يحيى خليل بعد نجاحها مع محمد منير دون نسيان أن هناك موزعين آخرين لعبوا دورًاهامًا في المشهد بتوزيعات كلاسيكية تعتمد على هارمونيات وجمل تتألف مع جمل اللحن مثل “ميشيل المصري، عماد الشاروني، محمد هلال”.
مع ظهور تكنولوجيا جديدة للتسجيلات الموسيقية أخذ التوزيع الموسيقي شكلًا مختلفًا بعض الشئ، أصبح الاعتماد على الكيبورد أو الأورج كاّلة رئيسية تخرج منها أصوات الكثير من الاّلات من خلال مكتبتها الصوتية الضخمة رويدًا بدأ يتقلص دور العازفين مع ظهور ما عرف بموسيقى الجيل والأغنية المعتمدة على الإيقاع فقط مع بعض الكوردات الخفيفة والمؤثرات الصوتية الإلكترونية.
سهلت التكنولوجيا كثيرًا من عمل الموزع الموسيقي واستغلها البعض بشكل سيئ حيث خرجت الأغنيات شبه فارغة موسيقيًا معتمدة على الكومبو فقط “الكيبورد، الباص جيتار، الإيقاع” دون وجود لالاّت تعزف بشكل حي في الاستوديو أو دون خطوط هارمونية أو وتريات موازية وأن أحتفظ بعض الموزعين بسمات فنية خاصة مثل “عماد الشاروني، طارق عاكف، يحيى الموجي” حيث كانت توزيعاتهم أكثر دسامة وثراء موسيقيًا من الأغنية الإيقاعية.
ثورات موسيقية أم نكبات
بعض الاّراء قد تقول أن أغنية البوب السريعة قد لا تتطلب دسامة في التوزيع الموسيقي والموزع ليس مطالبًا بأن يضع كم مبالغ فيه من الالاّت الموسيقية لإظهار جودته، قد يكون الرأي على صواب بعض الشئ لكن المسألة كلها المفترض أنها تخضع لطبيعة اللحن نفسه الذي يبني عليه الموزع عمله، وهي المسألة التي تبرز قوة الموزع عن غيره، فمن غير المعقول أن نرى لحنًا دراميًا على توزيع إيقاعي سريع أو فراغًا هارمونيًا على لحن يحتوى على نقلات مقامية كثيرة، أو استرخاص الموزع في تنفيذ أغلب توزيعاته بالكيبورد وهي أمور يجب مراعاتها وأدى عدم الالتزام بها إلى خروج بعض الأعمال مليئة بالمشاكل الفنية سواء في الفراغ الهارموني أو في تشابه الإخراج الموسيقي حيث تكرار وحلب شكل موسيقي واحد.
لكن الشيء الإيجابي في فترة الثمانينات والتسعينات أن اسم الموزع بدأ يذكر على أغلفة الشرائط وحصد بعضهم شهرة فاقت المطربين نفسهم مثل “حميد الشاعري” الذي كانت تضع صورته على الغلاف ضمانة لتسويقه وإلى حد أن أطلق عليه وعلى جيله ثورة موسيقية جديدة كسرت سيطرة الأغنية البديلة والفرق الموسيقية على المشهد الغنائي المصري.
بصمة الموزع الموسيقى
احتفظ أغلب الموزعين الموسيقيين ببصمتهم الفنية حيث أصبح من السهل معرفة من هو الموزع الموسيقي دون إغفال أن البصمة أحيانًا ما كانت تنتج عن الاستسهال والنحت الفني لتغطية كثافة الإنتاج الموسيقي في فترة التسعينات بالإضافة إلى جزئية أخرى وهي ضعف بعض الألحان حيث أصبح الموزع هو المسيطر الأول على العمل الموسيقي حيث يضع المقدمات واللوازم الموسيقية ويقتصر دور الملحن على تنغيم او تلحين الكلمات فقط.
لكن الميزة الكبرى كان في تنوع مشهد التوزيع الموسيقي في مصر حيث كانت هناك مدارس توزيعية مختلفة جدًا عن بعضها، فنجد أن حميد الشاعري كان يسهل معرفته من إيقاع المقسوم الذي أدخل عليه بعض الإضافات ودخل مكتبات الأورجات باسمه، نفس الحال مع طارق مدكور الذي كان يطور من أسلوبه وطريقته في التوزيع كل فترة، وطارق عاكف الذي كان أستاذ مدرسة التوزيع الشرقي الرصين التي تتعامل بشكل جيد مع الألحان الصعبة، ومدارس تتعامل برؤية مختلفة مع كل لحن مثل “محمد مصطفى” وهناك عدة مدارس توزيعية انتهجت الشكل الغربي بشكل شبه دائم مثل “محمد هلال، أشرف محروس، عمرو أبو ذكري، عمرو محمود” وظهور بعض المدارس التي تبحث عن هوية وتحاول أن تحاكي المدارس السابقة مثل أشرف عبده، مجدي داوود.
مع بداية الألفية كان إيقاع المقسوم المسيطر على أغلب أغنيات سوق الغناء قد بدأ يخفت من المشهد وبدأ أغلب التوزيع الموسيقي ينتهج الشكل الغربي في التوزيع وظهرت الأشكال والقوالب اللاتينية بكثرة والتي كانت تجتاح العالم في تلك الفترة، وبدأ جيل جديد من الموزعين الموسيقيين يأخذ مساحات أكبر وأوسع نظرًا لمواكبة التطور الموسيقي الحاصل في كافة بقاع الأرض، بالإضافة إلى أن الكل بدأ ينظر إلى تسويق نفسه خارج حدود مصر والخروج بأغنيته إلى العالم كله.
عصر الموسيقى البلاستيك
بعد ثورة يناير تغير المشهد الموسيقي بعد خفوت أغنية البوب المصري وظهور تيار موسيقى الأندرجراوند المستقل حيث سيطرت القوالب الغربية على المشهد مثل الـ Rock والـ Alternative Rock وظهر تيار دمج أكثر من قالب موسيقي في عمل واحد الـ Fusion، ثم ظهر نمط المهرجانات الشعبية والتي كانت تعتمد على برامج توزيع بسيطة والتي اجتاحت المشهد الموسيقي في ظل انهيار الإنتاج الغنائي واختفاء بعض المطربين من على الساحة.
قطة مي كساب وعصر طقاطيق عزيز الشافعي
عاد قالب المقسوم إلى الظهور مرة أخرى على الساحة الغنائية بعد سيطرة المهرجانات وقوالب الإليكترو شعبي، أصبحت الموسيقى شبه فارغة تمامًا واختفى من المشهد الموزعين الكبار سواء برحيل بعضهم أو احتجاب البعض الآخر عن العمل لسوء الأوضاع الموسيقية التي أصبحت تعتمد على اللوبات الجاهزة وقلما ما نجد صولو منفرد لاّلة موسيقية في أغنية وهو ما أدى إلى هجرة أغلب العازفين الكبار والمهرة إلى الخليج وأصبحنا في عصر الموسيقى البلاستيك التي لا روح فيها مع ضعف الألحان الموجودة في سوق الغناء والتي تعتمد على جملتين بالعدد فلا تسليمات أو فواصل موسيقية قوية واختفت البصمة التي تميز كل موزع فلا هوية واضحة ولا موسيقى متعوب عليها وأصبحنا نعيش في عصر الطقاطيق السريعة التي تغازل مواقع التواصل الإجتماعي وتطبيقات الفيديوهات مع ذكر أن هناك بعض المحاولات الجادة التي تسير عكس تيار الموسيقى البلاستيكية التي تسيطر على المشهد الموسيقي المصري والتي نأمل أن تعيد إلى التوزيع الموسيقي دوره المهم جدًا في صناعة الأغنية المصرية.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال