ملف بليغ حمدي (4): الفلكلور ما بين التطوير والإفلاس الفني
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في أواخر الستينات دعى بليغ حمدي إلى ندوة داخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عنوانها”هل التراث هو المصدر الأساسي لتطوير الأغنية” دارت فيها مناقشات حامية وتساؤلات حول الاتهامات الموجهة إليه بالنقل والاقتباس من التراث مع سؤال رئيسي هل العودة إلى الفلكلور يعتبر نوع من الإفلاس وعدم القدرة على الإبداع؟
جائت أغلب ردود بليغ على تلك التساؤلات انفعالية جدًا مؤكدًا على أنه درس تركيبات لحنية وإيقاعات وأساليب موجودة في وجداننا وتعيش معنا بالإضافة إلى أنه قام بدراسة طويلة للأدب الشعبي وبدأ كتابة ألحانه بهذا الأسلوب لأنه يؤمن بأن هذا هو الطريق السليم لوضع شخصية قومية لموسيقانا العربية، ثم زج اسم خالد الذكر سيد درويش بوصفه انتبه إلى التراث مبكرًا واعتمد عليه في ألحانه الشعبية وزاد عليه بذكر تجارب الأخوين رحباني في تطوير وتهذيب بعض الألحان الشعبية وتقديمها عبر صوت فيروز.
كان اختيار بليغ لتلك الندوة بصفته أكثر الملحنين انتشارًا حينها وأكثر من صدروا للمشهد الغنائي أغنيات مستمدة من الفلكلور بالإضافة إلى الجدل الذي سببه هذا التيار الفلكلوري وظهور أصوات معارضة له منهم الموسيقار محمد فوزي الذي اعترض على لفظ التطوير في أغنية “على حسب وداد قلبي” قائلًا أن التطوير لا يعني تغيير الموتيفة أو التيمة اللحنية الأساسية بل تقديم الأصل بتوزيع جديد مثلما فعل الرحابنة في أغنية “زوروني كل سنة مرة” لسيد درويش.
إعادة تشكيل الهوية الفنية
في أوائل الستينات صدرت قرارات يوليو الاشتراكية والتي كان لها تأثيرًا قويًا على جميع مناحي الحياة في مصر ومنها عالم الأغنية، حيث مهدت الطريق لظهور أغنية جديدة ذات بعد اجتماعي تتحدث عن العامل البسيط والفلاح وتعبر عنهم وعن مشاعرهم وهو الاتجاه التي تبنته مؤسسات الدولة بالأخص بعد نجاح أغنية “تحت الشجر يا وهيبة” عام 1964 حيث كانت تعول على محمد رشدي كي يكون مطرب تلك المرحلة,غيرت تلك الأغنية كثيرًا في مشهد الأغنية المصرية وبدت وكأنها نقطة فاصلة بين عهدين حيث اتجه المشهد برمته إلى تلك الأغنية الشعبية الجديدة.
في تلك الفترة كانت ألحان بليغ حمدي تأخذ طابعًا رومانسيًا سواء في الأغنية المسرحية الطويلة مع ام كلثوم أو حتى في الأغاني القصيرة مع عبد الحليم حافظ،نجاة وفايزة أحمد، وكانت تسير وفق القالب الموسيقي السائد الذي وضعه اّخرون قبله بالإضافة إلى عدم وجود إسهامات قوية في مضمار الأغنية الشعبية.
ملف بليغ حمدي (3) : بليغ وعبد الحليم .. غنوة حلوة من ضمن الأغنيات
لكن الشاهد أن بليغ كان يبحث لنفسه عن هوية مختلفة كي يبني تيارًا موسيقيًا جديدًا ووجد مشروعه الشخصي في تطوير الفلكلور حيث كان يقضي ساعات طويلة داخل مركز الفنون الشعبية في الاستماع إلى تسجيلات المطربين الشعبيين في قرى ونجوع مصر التي جمعها زكريا الحجاوي وطاف في جولة داخل قرى ومدن مصر ليستمع إلى ما يغنيه الناس هناك، ثم وجد ضالته في صوت رشدي بعد خلافه مع عبد العظيم عبد الحق ملحن أغنية “تحت الشجر يا وهيبة” حيث بدأ معه سلسلة من الأغنيات الناجحة مثل “اّه يا ليل يا قمر، وسع النور، عدوية” و انطلق مع شادية في عدة أغنيات استلهمها من الفلكلور بدأها “اّه يا اسمراني اللون،قولوا لعين الشمس ماتحماشى” ثم تعاون مع عبد الحليم في أغنية التوبة وتبعها بعدة أغنيات أخرى مستوحاة من الفلكلور كما ذكرت في المقال السابق عن بليغ وحليم.
تطوير أم إفلاس فني
كعادة المشهد الغنائي المصري في حلب أي تيار موسيقي جديد حتى آخر قطرة فيه، أصبحت معظم الأغاني أما مأخوذة من الفلكلور أو من الموشحات القديمة وظهرت أغنيات كثيرة تشترك في نفس الاسم ونفس المطلع مثل “خدني معاك” حيث نجدها بصوت شادية،محرم فؤاد، ماهر العطار،ثناء ندا وأغنية “ميتى أشوفك” بصوت محمد رشدي،محرم فؤاد، “قدك المياس” بصوت محرم فؤاد،عبد الحليم حافظ، واتهم بعض النقاد والصحفيين الشعراء والملحنين بسرقة التراث المصري ونسبه إليهم وبدأت تدب الخلافات حول حقوق استخدام الفلكلور أشهرها خلاف على أغنية “العتبة جزاز” بين محرم فؤاد الذي كان ينوي تقديمها مع المطربة عزيزة عمر مع عدة أغنيات أخرى وبين الموسيقار على إسماعيل الذي كان مقرر أن يقوم بتوزيعها وقدمها لفرقة رضا للفنون الشعبية بدلًا من عزيزة عمر وبين شركة صوت القاهرة التي تدعي ملكيتها لـ اللحن ومؤسسة المسرح التي تدعى هي الأخرى ملكيتها لـ اللحن ثم انهى زكريا الحجاوي الخلاف بأن الأغنية هي ملك للشعب وليس ملك لشخص او جهة ما،وبدأت بعد التقارير ترصد تلك الظاهرة وهل هي سبب في إفلاس الأغنية المصرية مشفوعة بآراء بعض الملحنين والمطربين ومنهم بليغ الذي حذر من الذين يخربون الفلكلور وأن البعض اتجه إليه دون دراسة وفهم ولكن كونه تقليعة أو موضة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد حيث ظهرت بعض الأصوات المؤدية التي ركبت موجة الفلكلور بشكل مبتذل وقدمته من خلال صالات شارع الهرم وفي العديد من الاسطوانات وهو الأمر الذي حمل مسئوليته الشاعر مجدي نجيب إلى بليغ حمدي بسبب توقف مشروعه حيث كان ينوي طبع اسطوانات يحتوى وجهها الأول على النسخة الأصلية للأغنية الفلكلورية كما يتناقلها الناس وعلى الوجه الأخر نفس النسخة لكن بعد إدخال التعديلات والتطويرات عليها، لكن مسئولية بليغ لا تقف فقط على توقف المشروع وأن كان هذا لا يد له فيه بسبب العوائق المادية لتنفيذه ولكن لأن بليغ كان مسئولًا بشكل غير مباشر على أن كل من هب ودب أصبح يستخدم التيمات الفلكلورية ويعيد تقديمها بشكل مبتذل وهو نفسه لم يسلم من ذلك حيث بالغ في استخدام الإيقاعات في العديد من الأغاني منها “يا أم الصابرين” لشادية حيث استخدم إيقاعات العوالم والتي فرضت نوعًا من التنويم للمستمع ورأي الموسيقار مدحت عاصم أنه لم يكن موفقًا في صنع لحن يعبر دراميًا عن الكلمات وفقدان الإحساس بالكلمات والانتصار لأفكاره اللحنية على حسابها.
النقلة الثانية في الموسيقى المصرية
بعد نجاح ملحمة أدهم الشرقاوي وبعدها أغنية “تحت الشجر يا وهيبة” التفت الجميع إلى الأغنية الشعبية من جديد والأغنية لم تكن من ألحان بليغ حمدي بل ألحان ملحن أخر هو عبد العظيم عبد الحق الذي كانت له صولات وجولات في الأغنية الشعبية المصرية مع ملحنين آخرين أهمهم على الإطلاق محمود الشريف الذي يعتبر أكثر من ساهم في إثراء الأغنية الشعبية بألحان أصلية جدًا، يكفي أن نمر على ألحان مثل “يا أبو العيون السود” لمحمد عبد المطلب ” يا ولا يا ولا” لعبد الغني السيد التي قد يخال للمستمع لها أنها ألحان فلكلورية لكنها كانت نابعة من أفكار الشريف الذي كان أكثر الملحنين فهمًا وهضمًا للتراث المصري وخرج منه بأفكار جديدة تمامًا وعلى نفس الدرب سار محمد الموجي في العديد من الألحان ذات المذاق الشعبي الخالص مثل “رمش عينه، الحلوة داير شباكها” مع محرم فؤاد “تمر حنة، يا اما القمر ع الباب” لفايزة أحمد.
أما بليغ فبدأ محاولاته في الأغنية الشعبية بالاقتباس صراحة من الفلكلور بداية من أغنية “قولوا لعين الشمس ماتحماشى” مع شادية ثم انطلق في مشروع إحياء الفلكلور المشروع الذي بدأه في الأصل زكريا الحجاوي و أجهض لأسباب بيروقراطية واستغل بليغ الأمر لصالحه تمامًا ونفذه برؤية مختلفة عن الحجاوي الذي كان يريد الحفاظ على أصالة الألحان أما بليغ فكان يصب اهتمامه على الجملة الموسيقية الفلكلورية ثم يعيد صياغتها من جديد لا يلتفت إلى مضمون الكلمات في الغالب ويزحم الأغنية بإيقاعات صاخبة وإدخال الكورال كعنصر رئيسي في الأغنية لأنه في وجهة نظره خطوة نحو تطوير الأغنية الفردية والوصول بها إلى محطة المسرح الغنائي.
في النهاية يحلو البعض وصف بليغ بصاحب النقلة الثانية في الموسيقى المصرية دون استناد على أسباب واضحة لذلك، لكن أغلب الظن أن استخدام هذا الوصف مرجعه الأساسي هو أن بليغ أعاد اكتشاف الفلكلور والتراث المصري وقدمه بشكل جديد لكن هل كان بليغ له السبق في ذلك أم انتشاره المكثف في فترة كان يغرد وحيدًا في مشهد الغناء المصري جعلت ألحانه الأشهر والأكثر استماعًا وهل اضاف بليغ إلى الفلكلور أم كانت محاولات صابت بعضها وخابت بعضها الأخر ولا يمكن اعتبارها نقلة موسيقية جديدة.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال