همتك نعدل الكفة
42   مشاهدة  

ملف بليغ حمدي (7) : بليغ حمدي بين اللهو وصناعة المجد

بليغ حمدي
  • ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



أدى تعاون بليغ حمدي المبكر مع أم كلثوم في أغنية “حب إيه” إلى اختصار مشوار طويل كان يجب عليه قطعه كي يتحقق،هذا التعاون سمح له بالانتشار غير المسبوق في المشهد الغنائي المصري، وقع بليغ وقتها في فخ الكم أم الكيف واختار طواعية الكم على حساب الكيف للدرجة التي جعلت بعض ألحانه الجيدة لا تأخذ فرصة للانتشار وتتوه وسط كل هذا الكم الكبير لأن كل يوم هناك ألحانًا جديدة له، مع أواخر الستينات كان شبه منفردًا بساحة التلحين في مصر والوطن العربي، مع شخصيته الفوضوية ومزاجيته المفرطة دخل في صراعات فنية كثيرة تأرجح فيها بين صورة الشخص اللاهي العابث غير المكترث بالفن وبين محاولات صناعة مجد فني.

الانفجار مثل الحنفية

في مذكرات الموسيقار محمد عبد الوهاب “أوراقه الخاصة” قال أن بليغ حمدي عندما تسيطر عليه جملة لحنية يفعل كل ما في وسعه لأن تخرج إلى النور لا يهمه الكلمات التي سوف تكتب عليها هل مناسبة لطبيعة الجملة اللحنية أم لا.

عبد الوهاب كملحن محنك كان يدرك معنى الكلمة والسياق اللحني الذي يجب أن توضع فيه، ولم يذكر تلك المقولة للتقليل من قدر بليغ بقدر ما التأكيد على أن موهبته كانت تحتاج إلى ترويض وتأني في بعض الألحان لكن الجري واللهث خلف الانتشار ومحاولة اثبات وجوده جعلته لا يهتم سوى بالجملة اللحنية ولو على حساب الكلمات أو كما وصفه الموجي في أحدى الحوارات “رأسه مليء بالموسيقى، لكنه متسرع جدًا”

يعتبر بليغ من أوائل الملحنين الذي يتبع أسلوب ولادة اللحن قبل الكلمات، وقد لا يعطي فرصه للشاعر للتعبير عن نفسه وطرح أفكاره بل عليه الالتزام بما يفرضه عليه حتى لو دندن بعض الكلمات غير المفهومة أثناء صناعة اللحن وله بعض الألحان الشهيرة جدًا والمكتوب عليها كلمات لا تجد لها معنى على الإطلاق أشهرها أغنية “على رمش عيونها” والتي يتندر عليها الأن على مواقع التواصل الإجتماعي لأن مطرب الأغنية “وديع الصافي” يغني وهو في حالة انتشاء وسعادة قائلًا “خدني شوقي لقتني بروح عندها، حد تاني سبقني وخد يدها”

YouTube player

وفي واقعة أخرى بطلها الشاعر “مجدي نجيب” الذي ذكر أنه استمع عند بليغ إلى تقاسيم على العود والقانون وضعها فنان فرنسي وأراد بليغ أن تكون مدخلًا إلى مقدمة أغنية لشادية يكتبها نجيب، وفجأة بدأ بليغ يدندن على العود جملة لحنية ردد معها بعض الكلمات غير موزونة وغير مترابطة ثم انهى الجملة اللحنية بكلمة “يا ريت يا قطر الفراق يأخروك ساعتين” وهنا تدخل نجيب قائلًا : أنت شبه كتبت الكلمات وهي تحتاج إلى بعض الترابط في الوزن والقافية ليرد عليه غاضبًا : أنا عندي اللي يقدر يعمل المطلوب وظهرت اغنية “قطر الفراق” والتي أعاد توليف وضبط كلمات بليغ فيها الشاعر محمد حمزة.

YouTube player

ثم يذكر نجيب أن بليغ كان غاضبًا من أغلب شعراء الأغنية مثل الأبنودي وعبد الرحيم منصور لأنهم يتعاونون مع ملحنين اخريين غيره وأن من يعمل معه لا يعمل مع غيره ثم وصل إلى مرحلة غرور قائلًا أن مصر والوطن العربي كله لن يسمع إلا ألحاني فقط بل سأكون مثل الحنفية فأي مواطن سوف يفتح الراديو لن يسمع غير ألحاني وأنه يبحث عن أي شخص أو أي شاعر يستطيع فك الوزن والقافية وسيجعل منه أشهر الشعراء وبالفعل وجد ضالته في الشاعر محمد حمزة الذي كان يكمل ما بدأه بليغ من كلمات وأحيانًا أخرى كان بليغ يصيغ بنفسه كلمات الأغنية تحت اسم “ابن النيل”.

بليغ حمدي
من كتاب صندوق الموسيقى للشاعر مجدي نجيب

من أجل عينيك

لم يقف صدام بليغ مع الوسط الفني عند الشعراء فنقل محرر مجلة الشبكة بعض الآراء التي فتح فيها بليغ النار على كل الملحنين حيث هاجم محمد عبد الوهاب ،السنباطي ومحمد الموجي، على خلفية  لحن قصيدة من أجل عينيك التي لحنها السنباطي بعد أن سحبتها أم كلثوم منه.

القصة بدأت عندما اعطت ام كلثوم الكلمات إلى بليغ حمدي وظلت طيلة عام عنده دون أن يلحن حرفًا منها حتى أنه كان يتهرب من مواعيده معها، بالصدفة التقاه الدكتور حسن الحفناوي زوج أم كلثوم وعاتبه بأن ما يفعله معها لا يليق بها، ليرد بليغ بلا مبالاة : أنا حر، وهنا ذكره الحفناوي بأن أم كلثوم لها فضل عليه فهي من أعطته الفرصة ليرد بليغ غاضبًا : لولا أنها بحاجة لي لما اعطتني ما تسميه فرصه، وبالطبع نقل الحفناوي الحوار لأم كلثوم التي أسندت تلحين القصيدة إلى السنباطي.

افتتحت أم كلثوم موسمها الغنائي بقصيدة “من أجل عينيك” وفي جلسة خاصة داخل منزل المطربة مها صبري وفي حضور محرر مجلة الشبكة الذي سأل بليغ عن رأيه في لحن السنباطي ليرد بليغ ساخرًا أن هذا لا يمكن أن يطلق عليه لحنًا أبدًا وأنه أبلغ أم كلثوم أن أي مبتدئ على العود قادر على دندنة هذا اللحن وهنا رد عليه الصحفي بأن رأيه ليس نابعًا من بليغ الفنان ولكن نابعًا من الغيرة لأن أم كلثوم سحبت القصيدة منك ليرد بليغ بأنه هو من رفض تلحينها وأنها تصلح لأن تصدر في اسطوانة لا أن تفتتح بها موسمها الغنائي.

بليغ حمدي

التقط المحرر خيط الحوار وبدأ يسأله عدة اسئلة عن رأيه في بعض الملحنين ليصب بليغ هجومًا على الجميع بدأ بالسنباطي وعبد الوهاب حيث لا يعتبرهما مدرسة تلحينية مستقلة بل زاد أن السنباطي مجرد ملحن مجتهد ثم هاجم الموجي قائلًا ماذا فعل كي يطلق عليه لقب ملحن؟ وحاول الصحفي أن يرد على هذا الهجوم لكن بليغ باغته بأنه مجرد صحفي لا يفهم شئ في الموسيقي وبالتالي لا يجب عليه ان يتحدث عنها ثم سأله الصحفي هل أنت على وعي بكل ما تقوله ليرد بليغ أنا في كامل وعيه ثم استأذنه في نشر هذا الكلام ليرد بليغ : لا أحد يصدق المجلات اللبنانية.

وجدت مجلة الشبكة تلك التصريحات المثيرة مادة ثرية ومغرية للنشر ثم سمحت لكلًا من السنباطي والموجي بالرد على ما قاله بليغ حمدي، صرح السنباطي بأن بليغ برعم قد يكون له مستقبل في الموسيقى ثم هاجم صوت عفاف راضي الذي اكتشفه بليغ وفرضه على الوسط الغنائي بأنها لا تصلح للغناء الشرقي ثم هاجم بشكل غير مباشر ألحانه بأنها ألحان تخرج من مزاج راقص وأنه لن يضح لحنًا لسيدة الطرب يقصد “أم كلثوم” كي يستورده شارع الهرم من أول ليلة.

بليغ حمدي
حوار السنباطي مع مجلة الشبكة اللبنانية

أما الموجي فكان أكثر حدة من السنباطي رغم أنه لم ينكر موهبة بليغ الفذة إلا أنه صرح بأنه يريد التكويش على كل شئ في الوسط الغنائي ومن حقك أن تستمع ببريق المجد والشهرة في زمنك لكن لا تنكر بريق من سبقوك ولا تسلم نفسك للغرور وتحط من شأن الأخرين ثم ختم كلماته بالجملة الأقرب إلى الحقيقة أن قصيدة “من أجل عينيك” موضع الخلاف هي قصيدة صعبة جدًا وأغلب الظن أن بليغ تهرب من  تلحينها لصعوبتها وهي حقيقة قد ينكرها عشاق بليغ الذي لم يعرف عنه براعته في تلحين القصائد حيث اقتصر الأمر على “أنا فدائيون” لأم كلثوم “حبيبتي من تكون” عبد الحليم حافظ” مع بعض القصائد التي لم تنجح مع وردة وهي نقطة ضعف لم يلتف إليها ولم يعمل على تقويتها أو لنقل لم تكن تشغل باله من الأساس.

اللهو في صناعة المجد

إقرأ أيضا
صحة

لا ينكر أحد موهبة بليغ حمدي الفذة لكن هل استغل تلك الموهبة ووظفها في الاتجاه الصحيح، أم انفتحت أمامه أبواب المجد والشهرة فانفجرت ماسورة ألحانه في الوسط الفني بلا ضابط ولا رابط،عشرات الأغنيات الناجحة وأمامها مئات الأغنيات التي لا يتذكرها أحد.

استهلك بليغ طاقاته الفنية كثيرًا وطغت على بعض ألحانه شخصيته الفوضوية فعانت من قلة التماسك والترابط اللحني فيما يشبه الفوضى الموسيقية بإيقاعات صارخة وازدحام غير مبرر في الآلات الموسيقية وكأنه نوعًا من الابتكار والتجديد، وانحاز كثيرًا لأفكاره الموسيقية على حساب العمل ككل فلا فرق عنده بين أغنية عاطفية وأغنية وطنية.

YouTube player

يصفه بعض محبيه ومريديه بصاحب النقلة الموسيقية المهمة بعد سيد درويش فهل غزارة الألحان مرادفها أن تكون صاحب نقلة، أم محاولة مسايرة الأجواء السياسية والاجتماعية في الستينات واتجاه الدولة نحو تبني الفنون الشعبية جعله يدخل بقوة في معترك الأغنية الشعبية مع رشدي وهل كانت محاولاته في تطوير الفلكلور هدفًا نبيلًا للبحث عن هوية موسيقانا المصرية أم كانت ابحار ضد التيار الكلاسيكي الذي لن يستطيع الوقوف أمامه فاختار لنفسه ريادة فنية من منطقة مختلفة ليعلن تميزه وانتصاره وهي النقطة التي يستند إليها كثير من محبيه دلالة على النقلة الهامة التي أحدثها في الأغنية المصرية.

الخلاصة أن بليغ اجتهد فأصاب وأخطأ وبعد موت عبد الحليم حافظ وانتهاء عصر الأغنية الطويلة حاول أن يجد خليفة له معاندًا أحكام القدر قدم أصوات مثل على الحجار، محمد الحلو، توفيق فريد، سوزان عطية، سميرة سعيد، نجحت بعض المحاولات والمحاولات الأخرى لم نسمع عنها شئ وخرج كل شخص كي يتواءم مع التغييرات الجذرية التي ضربت في صلب المشهد المصري ليتم إعلان انتهاء عصر بليغ حمدي مع انتشار الفرق الغنائية وسطوع نجوم جيل الوسط والأغنية البديلة حتى سقط في بحر من اللهو والعبث أفضى إلى حادثة سميرة مليان الذي دفع فيها ثمنًا غاليًا من سمعته وشهرته وكانت الأزمة التي ختمت حياة موهوب تأرجحت مسيرته بين اللهو وبين محاولات صناعة المجد.

الزعيم ومغامرة المسرح السينمائي

الكاتب

  • بليغ حمدي محمد عطية

    ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان