همتك نعدل الكفة
476   مشاهدة  

ممادو الذي علمني معنى البراجماتية !

البراجماتية


 في إحدى الكافيهات التي تطل على كوبري ستانلي قابلته، لم تكن تلك المرة الأولى التي نلتقي بها، فقد التقينا ذات يوم في محاضرة لشرح تفاصيل آليات الإنتخابات الأمريكية وكيف تتم، ولكنه لم يكن المُحاضر، فقط كان هو المُعد والمُنظم للمحاضرة.

لم نتحدث حينها ولكن الإحترام صار متبادلًا بيننا على موقع الفيس بوك، كنت انبهر بتلك المعلومات العميقة والثرية التي يلقيها أمام أعين متابعيه ببساطة وسهولة كالسهل الممتنع الممتع، خلّاق متجدد في أفكاره يأخذ متابعيه إلى فضاءات واسعة بيسر وسهولة، لا تشعر حين تقرأ له بأي استعراض لعضلاته الفلسفية ومفرداته اللغوية أو مصطلحاته السياسية، ولكنه فقط يحاول أن يطرح ما يجول في نفسه بطريقة بسيطة يفهمها الجميع، يمتلك فن لا يجيده كثيرون، حتى كتاب المقالات اليومية، ذلك الفن الذي يجعله يكتب بعض الكلمات المحدودة، فيشعرك وكأنك قرأت كتاب من ألف صفحة، إلى أن عزم يومًا على السفر لأسباب لا داعي لذكرها الآن، وكان عليّ أن أودعه، فلا أحد يعلم متى سوف يعود.

ذهبت في الموعد المحدد مع صديقة، لالتقي الصديق العزيز جدًا والقريب للقلب جدًا جدًا محمد سعد ممادو، تهلل وجهه لرؤيتي، كما تهلل وجهي، وبعد التحيات والإطراءات المتبادلة تناقشنا في عدة أمور، سياسية وإقتصادية واجتماعية، ثم عرضت عليه مشروعي -الذي لم يكتمل- على الباور بوينت لشرح بعض المصطلحات السياسية للصم والبكم في إطار التوعية السياسية التي كنا نهدف ونطمح ونحلم بتحقيقها لمختلف فئات الشعب المصري وطوائفه.

كان المشروع مدعمًا بالصور، وتحت كل صورة بضع كلمات بسيطة ويسيرة تشرح بإختصار تعريفات سياسية، كتعريف الدولة والأيدولوجية، و معنى الحزب والحركة، وما هي الشيوعية والإشتراكية والفرق بينهما، وشرح لليبرالية والطريق الثالث، ولن أنسى تلك الإبتسامة الهادئة التي ارتسمت فوق وجه صديقي الجميل ممادو وهو يقول : تعريفاتك كلها يسارية يا مريم!!، لن أنسى أيضًا أنني ابتسمت بدوري، فقد كان اتجاه والدي رحمه الله يساريًا، وكان هو وأمي ناصريين حتى النخاع، ولكنهما أنجبا تلك الليبرالية العاقة المارقة.

كان في المشروع ضمن المصطلحات تعريفًا للبراجماتية والدوجمائية والديماجوجية، توقف ممادو للحظات عند مصطلح البراجماتية، وقال : المصطلح ده تعريفه مش صح، أنا بوصف نفسي إن أنا براجماتي، ابحثي تاني عنه عشان تعرفي تعريفه الصح.

كنت قد وقعت في فخ إحدى المواقع الإسلامية المتشددة، وكتبت شرحها على هذا الأساس، عرف الموقع البراجماتية بأنها اختصار لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وأن أفكارها نشاز، ودعاتها منبوذين عصاة، وعقابهم أشد من مرتكبي المعاصي والمذنبين والآثمين، وصورها كوحش سوف يفترس الإسلام والمسلمين، وأنها السبب في تشتيت هوية الأمة، وإهدار فكرها، وتمزيق وحدتها، وإفساد أخلاقها .لأنها- بالطبع- تحمل منهجًا فكريًا هـدامًا تسللت من خلاله أفكـار الغرب وقيمه وآراءه، فحينما تنهج الفكر البراجماتي تقول على سبيل المثال: ” إنه لا بأس بوجود القنوات الفضائية العربية الماجنة طالما أنها تصرف المشاهدين المسلمين عن القنوات الكفرية المنحلة” ناهيك عن دعاوى التحريض ضد العلمانية والعلمانيين ووصفهم بالكفرة الملحدين !!

البراجماتية

وعندما بحثت وقرأت مرة أخرى وجدت أن البراجماتية هي كلمة يونانية تعني العمل، وهي فلسفة تشجع الناس على أن يبحثوا عن الطرق وأن يفعلوا الأشياء التي تحقق أهدافهم بشكل أفضل، يقول تشارلز بيرس أول من صاغ كلمة براجماتية “أن الحقيقة و المعرفة هي نتاج أفعالنا، وإن كل ما نعرفه في هذا العالم هو نتيجة للتحقق والبحث عن إجابات” ويقول وليام جيمس الذي استكمل تطوير الفِكر البراجماتي : أن “الحقيقة تقوم على التوجيه الناجح للتجربة” ثم قام جون ديوي بتنظيم مصطلح البراجماتية فقال : “إن الحقيقة ليست ثابتة، وإنما هي ما يتم تصديقه وقبوله في المجتمع، وإن الحقيقة يتم تصديقها و تأييدها إذا كانت مقبولة إجتماعياً وعُرفياً. وعندما لا تلبي الحقائق الحاجات الاجتماعية، يتم البحث عن حقائق أخرى لتحُل محلَّها”.

والبراجماتية هي نقيض الدوجمائية، حيث أن الدّوجمائية تعني التمسّك بفكرة ما بشكل متعصّب ومتصلّب والاعتقاد الجازم بصحّتها بدون الانفتاح على باقي الأفكار المطروحة، فما يتميز به الشخص البراجماتيّ هو أنه شخص منفتح الذهن وحرّ أمام الإمكانات المتاحة له، ومتطلع إلى المستقبل، ولا يعود إلى الماضي بالتفكير المرهق فيه، ويتعامل مع العالم الواقعى كما هو وليس كما ينبغى أن يكون. وترفض البراجماتية الأحكام المسبقة، كما تهتم بالفرد وتهتمّ بسعادته ومصلحته، وتقدم الفرد كفاعل حقيقي.

إقرأ أيضا
وفاة بلفور

لم يسخر مني الصديق الجميل ممادو أو يتهكم، لم يجعلني أشعر بأنني ارتكبت خطأ فادح سوف تطير له رقاب، لم يجعلني أخجل من نفسي ومن جهلي وسوء تقديري لمصطلح ربما ترجمته بشكل خاطئ، لم ينصب نفسه إلهًا للحكمة، أو نبيًا للمعرفة، أو رسولًا للعلم، أو ملاكًا للفلسفة، بل قال بابتسامته الهادئة المعتادة : ابحثي تاني.

لقلبك كل التحية وكل السلام يا ممادو أيها الصديق الجميل

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
8
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان