من وحي الحوار الوطني 05) تاريخنا ولا تاريخ الجيران
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
استفتاح
هيمنة الخطاب الديني ع المجتمع بتشكل خطورة على ثقافتنا وتركيبتنا الهوياتية، نتيجة لقرايتنا للتاريخ بشكل خاطئ، وده كله لأسباب جذرية جدًا في الإسلام كمكون ثقافي… وكعقيدة.
أهلًا بيكم في خامس حلقات سلسلة من وحي الحوار الوطني، في حلقة لماذا نُحاسب على مشاريب العرب أتكلمنا عن أزمة اعتماد النسخة العربية القُحة من الإسلام، مع توضيح صعوبة فصل الأتنين عن بعض، بشهادة العروبين نفسهم.
الحلقة دي هنراجع شوية تاريخ، بس بقراية برجماتي لوقائع التاريخ كما كان، بعيدًا عن القراءات المثالية والعاطفية اللي بتقرا وقائع التاريخ كما يجب أو نحب أن يكون.
قرشية الإسلام
المجتمع القرشي في العموم، وشخصياته البارزة -في زمن النبوة- وتفاعلاتهم القبلية مع بعض.. ليهم تأثيرت لا يمكن إنكارها في نشأة الإسلام وتكوينه. مش بس على مستوى تأسيس الدولة وتكوين نواة الإمبراطورية، إنما كمان على مستوى صلب العقيدة… الوحي الإلهي.
كتير من الآيات وحتى بعض السور الكاملة نزلت مخصوص للتعليق على أحداث دارت في هذا المجتمع خلال تلك الفترة من التاريخ.
تأثير بلغ من العمق إن الإسلام كدين إنقسم لمذهبين رئيسيين، إتكونوا في أساسهم على تبعات صراع رجال هذا الجيل من نخبة قريش مع بعض على السلطة في أمبراطورية توسعية مواردها هي (الغنيمة)، ولو دورنا شوية هنلاقي إن الصراع ده كان إرث أجدادهم وأباءهم ليهم.. وهمه بدورهم مرروه لأبنائهم.
فبقى عندنا النهارده شعوب كاملة ماهماش عرب ولا ليهم في التور ولا في الطحين، بس متورطين في عركة بين عيلتين من قريش، لا لشئ إلا لإنها شعوب مسلمة، وبسبب حمل القرآن لجزء من تاريخ قريش.. ثم إنطلاق مذهبيه الرئيسيين من تاريخ قريش، كانت النتيجة أن الشعوب دي توارثت إيمان له حمولة تاريخية قبلية، لو لم يتم التعامل معاها بوعي شديد.. تقدر بسهولة تعمل إزاحة لتاريخ المسلم غير العربي وتحل محلها.
وده حصل بالفعل مع شعوب كتير، خصوصًا في الشرق الأوسط، حيث تسبب الدين الإسلامي -بحمله لبذور الصراع القبلي (القرشي-القرشي)، وخلال انتشاره في المنطقة إنه يزَرَع صراعات صفرية (طبيعة صراعات العرب) في أماكن كتير جدًا.
#بديهيات01
حسب أبسط قواعد الإيمان الإسلامي والمنطلقة من سرديته نفسها “القرآن”، فالنبي بشري طبيعي، لا هو ملاك ولا نازل من السما (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) – 93 الإسراء.
ومهواش جايب الدين من عندياته.. إنما من خالق الكون، اللي أوحى له بيه عن طريق وسيط نوراني/ملائكي، جبريل، (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) – 1:5 النجم.
كمان واضح جدًا إن نبوة محمد مش هتخليه مُخلد.. وهيموت عادي، وينفع يتقتل كمان: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
والأهم إن الوحي هينقطع بعدها.. فمحمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين.. (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) – 40 الأحزاب.
الشيعة
رغم كل ده بيعتبر الشيعة ذكرى مقتل الحُسين في كربلاء سنة 61هـ، يوم مقدس، وهي واقعة حصلت بعد إنقطاع الوحي بحوالي نص قرن. فلا وردت في قرآن ولا النبي حضرها عشان يكون له رأي فيها.
بالتالي كربلاء مش جزء من الوحي الإلهي إنما مجرد قدر إلهي، يعني بالشعبي السلس بتاع سلطان وأبو حميد في العيال كبرت، هي جزء من التاريخ مش من الدين، والفرق كبير.
فالحسين ابن علي ابن عبد المطلب، لما لجأ للمواجهة العسكرية مع قريبه (أبناء عمومة) يزيد ابن معاوية ابن أبو سفيان، رضوان الله عليهم جميعًا.. فيما عدا يزيد وعبد المطلب، ده كان قراره الشخصي. لا وحي نزل له من فوق سبع سموات يأمره بالقتال، ولا فيه ملايكة كانت بتحارب معاه.. وإلا كانوا بانوا ع النتيجة وأختلفت الموازين.
حرب خاضها بكامل إرادته الحرة.. ودفع حياته تمن ضعف تحالفاته العسكرية في مواجهة خصم أشد استعدادًا سواء عسكرية أو سياسيًا.. وضامن ولاءات أمتن وأكتر وأقوى.
أهل السُنة
فقهاء أهل السنة والجماعة، هربوا من فخ التقديس المضاد، أو تقريبًا ماكنش عندهم حل غير تبني “الضرورة السياسية” و”ضرورة بقاء الدولة”، لدرجة إن البعض ضحى باليزيد لحماية سيرة أبوه، معاوية ابن أبو سفيان، فظهرت مقولة زي: (قل اليزيد.. ولا تزيد).
والأهم إنهم سموا سلسلة الحروب الأهلية في الفترة دي باسم “الفتنة الكبرى”، بحيث يهربوا من الإضطرار لإدانة الطرف المهزوم، بكل ما يشكله من قدسية.
لكنهم، مصر نموذجًا، بيحتفلوا بذكرى غزوة بدر، رغم إنها برضك حدث تاريخي مش ديني.
آية عادية بتعلق ع الحدث بعد حدوثه، زي غزوات تانية تم التعليق عليها بعد ما انتهت، ومافيش أي احتفاء رسمي بيها.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ. ( غزوة حنين، التوبة 26)
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّـهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَليلٌ. (غزوة تبوك ، التوبة 38).
تساؤلات متوقعة
طبيعي أن يرد أحدهم بأهمية نص الآيتين 24و25 – آل عمران واللي نصهم: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ.
ما أنكرتش نص الآيتين، إنما هنا الكلام عن “العون الإلهي” مش “الأمر الإلهي”، يعني ربك سترها.. ماأمرش بيها. ستر ينفع يقف في أي لحظة.. زي ما حصل في غزوة أحد. إنما القرار غزوة بدر كان بشري تمامًا، بدون تدخل من الوحي. وده حسب روايات مراجع أهل السُنة والجماعة.
وبعدين، ليه مافيش نفس الاحتفاء بكل الغزوات اللي من المفترض الملايكة شاركوا فيها؟
الحبحاب بن المنذر
كل كتب السير والمغازي إتكلموا عن موقعة بدر، وعدد منهم ذكروا قصة بطلها الحبحاب ابن المنذر، يقال إنه النبي أمر الجيش يعسكر في انتظار القرشيين، فسأله الحبحاب هل اختيار المكان ده وحي ولا مجرد رأي، فرد النبي إنه رأي، فاقترح عليه تغيير المكان بحيث يمنعوا جيش القرشيين من الوصول لآبار المية.
ينفع طبعًا الطعن في درجة الحديث/الرواية، خصوصًا إن عدد من المحدثين ضعفوه، بس بنفس الكلام الكهنوتي، خلينا نوضح: إن تضعيف الحديث لا يعني خروج العامل به عن الملة، إنما يعتبر العامل به (اللي ينفذه) مجتهد مخطئ أو مسكين بياخد أجر واحد مش أجران.
زي اللي اغتالوا الشيخ الذهبي و د. فرج فودة، القتلة دول في نظر الفقه الإسلامي الأوصولي “اجتهدوا”.. يخطأهم البعض ويصوبهم البعض، رغم إن خطأهم ده أزهق أرواح، لكن يجروء أحد (أصوليين أو غيرهم) على اعتبارهم قتلة يشوهون صورة الإسلام، بل حتى ماتخطرش على بال حد فيهم. زي ما الشيخ الغزالي قال عن قتلة د. فرج فودة: شباب أفتأتوا على حق الحاكم في قتل المرتد. ومن ساعتها والإسلامجية نازلين فتأ في المجتمع.
#بديهيات2
أي دولة أو حركة سياسية بتنشق على نفسها، بيكون على الفريق الخسران تغيير اسمه، ويحتفظ الفريق الكسبان بالاسم القديم زي ما هو.
ولو الفرقتين على نفس القدر من القوة، العسكرية/السياسية، فهنا كلا الطرفين هيختاروا اسم، يشير للتنظيم/الحزب الأصلي، وفي نفس الوقت يميزه عن من إنشقوا عنه أو إنشق عنهم.
بناء على القاعدة دي، أنصار علي، لِبِسوا.. ثم تقبلوا، تسمية شيعة عند الإشارة ليهم، بوصفهم أتباع مذهب مَن كَانوا يشايعون=يناصرون علي بن أبي طالب.
بطش السلطة ورومانسية الهزيمة
الدولة الأموية، المنتصرة، اختارت تتكلم من مربع الحُكم، وده تم عن طريق ترسيخ قاعدة “أهمية مركزية دولة الإسلام” ككيان سياسي مهما كانت الوسيلة أو النتيجة، وده طبقًا لفهم جيل من أبناء الصحابة (تابعين كتير صحابة قليل)، لرؤى جيل أبائهم (صحابة كتير تابعين قليل).
بالتالي النهارده الاحتفال بغزوة بدر، ذكرى تأسيس دولة المدينة، بيتم تنظيمه بشكل دوري من قبل الأزهر وبقيادة المندوب السامي القرشي بالمحروسة، والمعروف إعلاميًا بشيخ الأزهر، كممثل لدولة الأموية المحتفظة بحقها السياسي في ميراث دولة المدينة، بحكم انتصارها في كربلاء.
في حين الحُسين، اللي حارب تحت قيادة اليزيد ابن معاوية في القسطنطينية، وكان هو وأخوه الحسن (حسب اعتراف الشيعة) بيتلقوا العطايا من معاوية، بقى ثائرًا وشهيد، وكإنه من قال لا.. في وجه من قالوا نعم، عشان كده تحول ذكرى مقتله لاحتفال شعبي جدًا.
المفارقة البائسة
إن الإمبراطورية اللي تحارب عليها القرشيين، من بني أمية وبني هاشم قيمة 100 سنة، كانت محتلية أراضينا وممنوع حد يحكمها غير لو كان قرشي، أما أجدادنا (نسوان ورجالة) بأرضهم بمحاصيلهم بعيالهم.. كانوا الغنيمة المتنازع على حق السيطرة عليها، في العركة الحرب الأهلية اللي سموها “الفتنة الكبرى”.
في الواقع مافيش منطق لاحتفال رسمي بغزوة بدر، ولا فيه داعي إن شيعي مصري يلطش نفسه في ذكرى كربلاء، بس عشان ده يحصل، محتاجين تعديل بسيط في المناهج الدراسية.
تغيير يخلي ولادنا لما يدرسوا غزوة بدر ولا موقعة كربلاء، مايخدوش الكلام ده في حصة الدين، إنما في حصة التاريخ.. وهمه بيدرسوا “تاريخ العرب”، بوصفهم جيران بينا وبينهم تاريخ كبير، ولغاتنا الرسمية واحدة. مش بوصفهم أجدادنا أو إن الحواديت دي إرثنا المباشر.
خاتمة
الفكر القومي عندنا جزء من الفكر العربي ككل، والفكر العربي هو مظهر من مظاهر الواقع العربي ككل، هذا الواقع الذي قلنا عنه إنه لم يعرف الديمقراطية ولم يمارسها والذي عاش ويعيش في ظل الممارسات السلطوية في كل مجال.
د. محمد عابد الجابري – العروبة والإسلام.. والعرب
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال