موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب (2) بيئة الأفندي والاتصال بأمير الشعراء

أهلا بكم أعزائي القراء في ثاني حلقات سيرة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، كنا قد انتهينا في الحلقة الأولى عند التثبت من تاريخ الميلاد الحقيقي للنابغة محمد عبدالوهاب، واستكمالا لهذا التحري، نورد بعد الوقائع التي توحي بفكرة اضطراب مسألة التأريخ إذا ما كان مرجعنا في الحديث حول هذه المسألة فكرة تضارب الأقوال الثابت منها على لسان عبد الوهاب نفسه أو حتى بعض أقرانه، والهدف في النهاية أن نصل إلى تحكيم العقل في اثبات التاريخ الحقيقي لميلاد محمد عبد الوهاب.

ما بين محمد عبدالوهاب وأمير الشعراء

يروي موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في أحد البرامج واقعة كانت بينه وبين أمير الشعراء شوقي بك، مضمونها أن شوقي بك كان قد اشتكى للشرطة “إشفاقا منه على محمد عبد الوهاب” حين شاهده يغني بفندق “برنتانيا” بين فصول الروايات التي كانت تقدمها فرقة عبد الرحمن رشدي، حيث أرقته فكرة سهر من هو في مثل سن ذلك الفتى الصغير، ويقول شوقي لاحقا، أنه عاد واستمع له يغني دور “جددي يا نفس حظك” في حفل نادي الموسيقى الشرقي بكازينو سان ستيفانو وقد أبدى إعجابه به هذه المرة، يقول عبد الوهاب أن هذه الواقعة ربما كانت سنة 1926م، كيف يتحقق ذلك وقد غنى عبد الوهاب سنة 1924م أربع قطع من تأليف شوقي بك، بل أنه عمل مع سيد درويش سنة 1922م في أوبرا كليوباتر وهي من تأليف شوقي بك أيضا.

اقرأ أيضًا 
فلسفة الجنس في حياة محمد عبد الوهاب

على أي حال فإن مسألة نسيان وإغفال التاريخ الحقيقي للواقعة، تعد أمرا عاديا في الوسط الفني وكثيرا ما تضاربت أقوال الفنانين بشأن وقائع وحوادث حدثت لهم شخصيا، قلما تجد من يؤرخ لنفسه كالشيخ زكريا أحمد مثلا الذي بدأ في تدون مذكراته منذ عام 1916م بسبب حادثة وقعت له.

امتدادا لتوضيح الفكرة، يروي موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب كذلك، أنه اشترك في تظاهرة الفنانين عام 1919م، بعد اعتقال الزعيم الشعبي سعد زغلول، وأن جنديا شاهده والدم يسيل من وجهة فعطف عليه، فهل يعقل أن يشارك طفل في التاسعة من عمرة في تظاهرة تحمل صفة “تظاهرة الفنانين” أو حتى في تظاهرة سياسية عادية؟؟ كل هذه التساؤلات تثبت يقينا استحالة ميلاد عبد الوهاب في العام 1910م، وأن احتمال ميلاده في 1902م أو ربما قبل ذلك هو الاحتمال الأرجح.

أحمد رامي يروي في مذكراته ما يدعم ذات الفكرة

يقول شاعر الشباب أحمد رامي في مذكراته: التقيت بمحمد عبد الوهاب سنة 1915م، بدعوة من (مصطفى بك رضا) رئيس معهد الموسيقى العربية، دعاني فيها للقدوم والاستماع لذلك المطرب الصغير محمد عبد الوهاب، ومنذ تلك الليلة بدأت بيننا صداقة وتعاون فني.

وهنا نتسائل، كيف للشاعر أحمد رامي الذي ولد عام 1892م، أن يقول أنه بدأ تعاون مع محمد عبد الوهاب سنة 1915م، في وقت كان قد بلغ فيه الثالثة والعشرين، ومحمد عبد الوهاب “على قول أنه ولد عام 1910م” ابن خمس سنوات فقط، ثم كيف لطفل في سنه أن يدخل نادي الموسيقى الشرقي بل ويغني فيه، لا شك أن ذلك من المستحيلات.

خلاصة ما سبق، أن كل الوقائع التي وصلتنا عن محمد عبد الوهاب تجزم بأن ميلاده إنما كان في عام 1902م أو قبلها، أما احتمال ميلاده عام 1910م فهو أمر مستحيل، يؤكد ذلك أيضا اشتراك محمد عبد الوهاب في مسرحية شهرزاد 1921م وأوبرا كليوباتر 1922م، فمن المستحيل أن يكون محمد عبد الوهاب قد قام بدور “زعبولا” بدلا عن سيد درويش وهو ابن 11 سنة فقط، أو دور أنطونيو وهو ابن 12 سنة فقط، فضلا عن أن صوت عبد الوهاب في أوبرا أنطونيو وهو يغني مع منيرة المهدية في تسجيبل من سنة 1927م أو قبلها يوحي أن عمره يتجاوز بكل تأكيد السابعة عشر بكثير.

البيئة التي نشأ فيها محمد عبدالوهاب

ولد محمد عبد الوهاب ونشأ بحي باب الشعرية بمدينة القاهرة، ولد طفلا هزيلا وضعيفا، فيروى أنه صدرت شهادة بوفاته وهو ابن سنيتن فقط واستفاق وهم يغسلونه، يقول محمد عبد الوهاب أن وسوسته بخصوص النظافة والمحافظة على صحته إنما كانت بسبب واقعة الوفاة تلك، على أية حال فقد نشأ عبد الوهاب وسط بيئة دينية فأحب قراءة القرآن وتجويده، حتى أنه كاد أن يكون مقرئا لولا أن شيخ الكتاب الذي كان يرتاده كان قبيح الصوت شديد على تلاميذه مما نفر محمد منه.
كان محمد عبد الوهاب يهيم بالغناء منذ نعومة أظافره ويستهويه صوت صييتة عصره كالشيخ سلامة حجازي وعبد الحي أفندي حلمي واستطاع رغم حداثة سنه أن يحفظ الكثير من أعمالهما.

الطفل محمد عبدالوهاب وشغفه بالغناء والصييتة

كانت السنوات الأولى من حياة الطفل محمد عبد الوهاب مليئة بالقصص التي تحكي شغفه بالفن وأهله، كم يعشق ذلك الطفل الغناء وكم يستهويه سماع صييتة عصره حتى وإن كلفه ذلك الأذى، فيحكي أنه ذات يوم تسلق حنطور صالح أفندي عبد الحي مما كلفه سوطا على بدنه وجرحا في رأسه بعد أن وقع من على الحنطور، الأمر الذي ترتب عليه نقله إلى المستشفى، كذلك يحكى أنه تسلل ليلا إلى حي المنيرة وبدأ يساعد الطباخين في أحد الموالد، فقط ليدخل الصوان ويستمع للشيخ محمد رفعت وهو ينشد،ويروى أنه ليلتها لم يعد للمنزل إلا قبل الفجر بقليل.

يوما بعد يوم ومحمد عبد الوهاب الطفل يستمع للمنشدين والمقرئين فيزداد شغفه بالغناء أكثر وأكثر، فيسعى من صوان لآخر ومن سهرة لأخرى، رغم البيئة الدينية التي نشأ فيها والتي قلنا عنها من قبل أنها كانت تنظر للصييت بنصف عين وتستمع إليه بنصف أذن، إلا أن شغف طفل كمحمد عبد الوهاب لم يكن ليراعي مثل تلك العادات والتقاليد.

سار محمد وراء فطرته في حب الاستماع إلى الأصوات المطربه والألحان الخاطفة، فيحكى أنه ذات ليلة اختبأ أسفل دكة جلس عليها الشيخ سيد الصفتي يغني في أحدى الليالي حتى لا يتم طرده لحداثة سنه، وما كان الأمر ليقتصر فقط على الاستماع حتى نادته فطرته الغنائية، وآنس في نفسه القدرة على المحاكاة، فبدأ يغني ما سمعه من المشايخ والمطربين، فغنى للشيخ سلامة حجازي وعبدالحي حلمي والمنيلاوي وغيرهم من كبار المطربين.

ومنذ ذلك الوقت ازدادت تطلعات الفتى محمد عبد الوهاب، وبدأ ينظر لنفسه على أنه مطربا، و قد كان محقا، ففيما بعد أصبح محمد عبد الوهاب موسيقار الأجيال الذي خلد التاريخ سيرته وفنه.

وذات ليلية كان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يغني للشيخ سلامة حجازي قصيدة “ويلاه ما حيلتي ويلاه ما عملي ضاع الرجاء وضاقت في الهوى سبلي” بتياترو دار السلام، فسمعه أحد أعضاء فرقة فوزي الجزايرلي، وأعجب بفنه وتعجب كيف لفتى بحداثة سنه أن يغني قصيدة صعبة كهذه القصيدة لمطرب كبير كالشيخ سسلامه حجازي، وقرر أن يأخذه إلى الجزايرلي، لتبدأ منذ ذلك الوقت وقائع جديدة وأحداث أكثر تأثيرا في حياة محمد أفندي عبدالوهاب سنتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله.

إلى هنا أعزائي القراء نصل إلى نهاية الحلقة الثانية من قصة النابغة محمد أفندي عبدالوهاب على أن يتجدد اللقاء في الحلقة الثالثة إن شاء الله..
دمتم في سعادة وسرور.