همتك نعدل الكفة
1٬811   مشاهدة  

آسمهان .. ما بين الميلاد فوق الماء والموت غرقًا فيه كانت الأسطورة

آسمهان


بعثت السماء إلى القاهرة  صوت يشبه السحر فنستمتع به، ونحاول البحث فيه وفي خباياه، فنجد الطلاسم كثيرة وألغاز يصعب حلها  ونجد عمر الصوت الساحر قصير، ولكن تأثيره ممتد لعمر أطول، مازلنا نستمع إليه ونبحث فيه.

في 25 نوفمبر عام 1917، ولدت  ” أمال  فهد فرحان إسماعيل الأطرش ” على إحدى سفن اليونان و في عام 1925  قامت ثورة سورية  ضد الانتداب بقيادة سلطان باشا الأطرش  ودارت معارك دامية، ومع مطاردات القوات الفرنسية لعائلة  ” الأمير فهد ” الذي كان احد الزعماء  المناضلين ضدهم  مريدين اعتقالهم هربت العائلة إلى القاهرة .

اما عن قصة  ظهور صوت أسمهان لأول مرة، فتعود للفنان محمد القصبجي، عندما استمع اليها وهو في زيارة لوالدتها المطربة علياء المنذر، التي بدأت الغناء في القاهرة، عندما اكتشفها وأقنعها بالغناء وتسجيل اسطوانات ولم يعلم أنها لديها ابنة تدعى “أمال”، ابنة الأمير فهد الأطرش وأخت كل من ” فريد”، و”فؤاد ” كلاهما أبناء الأمير فهد الأطرش أيضاً، ولم يدرك محمد القصبجي، أن ” ابنة الوز عوام”، بل كانت الأروع والأبدع، فعندما سمعها تغني لأم كلثوم ” سكت والدمع أتكلم”، أدركه سحر صوتها  فجاء بزيارة أخرى ومعه الشيخ زكريا أحمد، وداود حسني، ومحمود صبح، فآسرهم سحر صوتها وقرروا تبني هذا الصوت الذي توقعوا انه سيحدث ثورة كبيرة في عالم الغناء، هذا الصوت كان تأثيره جديد على آذانهم غير عادي، فأخذ محمد القصبحي يعلمها المقامات والموسيقية وكيفية الانتقال بين النغمات وكان  الشيخ زكريا، يعلمها أصول الغناء فنظر إليها داود حسني وقالها لها، أنت ألان ” أسمهان ” ولازمها هذا الاسم طوال مشوارها الفني القصير من عام 1929  وحتى وقت اغتيالها في 14 يوليو 1943.

عرضت صالة “ماري منصور”، بشارع عماد الدين بالقاهرة، على أسمهان أن توقع عقد للعمل معهم ووافقت وبدأت الغناء معهم لمدة عامين فقط، وأيضاً كانت قد سجلت أولى أغانيها “أين الليالي” مع شركة “كولومبيا” لإنتاج الأسطوانات، إلا أنها لم تكمل معهم لزواجها من  الأمير حسن الأطرش، عام 1932، وذهبت إلى  جبل الدروز، وبقيت هناك لمدة ستة أعوام، أنجبت خلالهما ثلاثة أبناء بقيت منهم ابنتها كامليا فقط على قيد الحياة .

وبينما كانت أسمهان تعيش على جبل الدروز، وفي عام 1936 وافقت فرنسا على منح سوريا استقلالاً جزئياً، إلا أن فرنسا لم تحقق اتفاقها وفي خلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت سوريا تحت سيطرة حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان، ودارت الصدامات بين قوات حكومة فيشي وقوات فرنسا الحرة والقوات البريطانية.

لم تستطع أسمهان الاستمرار في زواجها والعيش في جبل الدروز، وتحمل طباع وشروط الأمراء، فحصلت على الطلاق عام 1938 وعادت إلى القاهرة، وبدأت طريقها الفني  في منافسة قوية مع أم كلثومٍ، حينها غنت  قصيدة “اسقنيها بأبي أنت وأمي”،  وقصيدة  “ليت للبراق عيناً،” من تأليف الشاعر  بشارة الخوري “الأخطل الصغير”، وأغنية “فرق ما بينا”، كانت تلك البداية قوية  ومبشرة بشكل ملفت لانتباه الكثيرين، وبالأخص أم كلثوم،  فلو نظرنا لبداية كل منهما نجد اختلاف تام، فكانت “أم كلثوم ” جليسة فرق الإنشاد وقراءة القرآن الكريم، وكانت لها قدراتها الخاصة في التمكن من المقامات الصعبة،  فتربى صوتها على” النهاوند والصبا والبياتي  والرست والحجاز والسيكا ومشتقاتها” وهذه المقامات كانوا مقرئي القرآن يستخدمونها في جلسات الإنشاد وقراءة  القرآن، غير ذلك أم كلثوم كانت سلطانة المسرح والموسيقى وتستطيع التنقل بين المقامات والارتجال بشكل محترف وقد كونت “التخت الشرقي الأصيل”، أما أسمهان كان اتجاه  صوتها مختلف، فكانت مساحة صوتها تجيد المقامات الغربية، واللحن الأوبرالي والتمكن الشديد من السوبرانو، كما صنفها أخصائيين روس في الموسيقى، كما وصفها المايسترو سليم سحاب بأن صوتها هو الأحسن على نطاق العالم، ويميل للون الغربي أحيانا لكن في اعتقادي كان  الفرق الأهم هو الالتزام بضوابط الغناء، والحفاظ على  الحنجرة والتدريب التي بقيت عليه أم كلثوم منذ صغرها والتزام بالممنوعات التي تفسد أو تضعف الصوت، وهذا ما لم تعتني بيه أسمهان، كان هذا الالتزام بالتدريبات أو الممنوعات أن يطور مساحات هذا الصوت الساحر، غير انه ممارسات أسمهان للسهرات والأنشطة السياسية، وانقطاعها أحيانا وقصر عمرها، كل هذا يخرجها من المنافسة مع أم كلثوم، مع أن فريق أم كلثوم “محمد القصبجي ورياض السنباطي” كان بدئوا في الميل لأسمهان لتأليف وتلحين الأغاني لها حتى أن ” قصيدة حديث عينين “، التي كانت من المفترض أن تكون من نصيب أم كلثوم، غير أنها طلبت تعديل بعض الأبيات فيها فذهبت لنصيب أسمهان عام 1941وكان هذا أول تعاون لها مع رياض السنباطي.

ومن حيث السيطرة كانت أم كلثوم الأكثر قوة وتسيدت وتسلطنت على المسرح وتمكنت منه، ولكن كيف سيكون إبداع أسمهان إذا وقفت على المسرح لن نستطع أن نعرف ذلك إلا إذا بقيت على طباعها فكانت لن تستطيع الصمود إمام جماهير تطلب إعادة المقاطع الموسيقية أو الكوبليهات عدة مرات.

ولكن إذا رجعنا للبداية الغنائية لأسمهان واستمعنا لقصيدة ” أسقينها بأبي أنت وأمي” كلمات بشارة الخوري، وألحان محمد القصبجي، هذه القصيدة وضعت على مقام “راست سازكار” بإيقاع هادئ يعبر عن العشق، ثم تنتقل إلى مقام “السيكا هزام “معبرا عن فرحتها متجهة إلى الحنين والحزن، على مقام “نهاوند”، ذاهبة إلى مقام “الحجاز سوزناك”، معبرة عن شوقها وحنينها، حتى  تستقر “بالراست”، مرة أخرى “كقرار وجواب”،  هنا نجد تمكن أسمهان من المقام متنقلة بسهولة بين المقامات الصعبة كالفراشة، في وقت قصير للقصيدة  التي كانت مدتها فقط خمس دقائق، كانت تلك القصيدة أحد بدايات أسمهان التي لمع صوتها على ألحان وتدريب محمد القصبجي، فعندما بدأ التلحين لأسمهان بدأ خياله يذهب بعيداً في الإبداع الموسيقي، كأنما اكتشف كنزا استطاع من خلاله أن يكتشف نفسه، مجدداً دمائه اللحنية، فصوت أسمهان كان بالنسبة له صوت جديد وعجيب حقاً، فكان الصوت يعطي مساحة للمقامات الشرقية مثل تلك القصيدة وأيضا المقامات الغربية، فعندما نختبر صوت أسمهان نجد أغنية ” ليالي الأنس في فينا” تلك الأغنية من كلمات أحمد رامي وألحان فريد الأطرش، وضعت على  مقام ” الطرزنوين  الفارسي”، ومكون من  الري بيمول، والمي بيمول، والصول بيمول، والسي بيمول، “ودونت على” الفا ماجور” موظفاً إيقاع الفالس الراقي حتى يعطينا في النهاية الصورة التي تعبر عن سحر أجواء وطرقات فينا، هذا اللحن الرشيق كان سبباً في أن يصعد ملحنه ” فريد الأطرش” إلى درجات محمد القصبجي ورياض السنباطي في العبقرية الموسيقية،  فكان في نفس الفيلم “غرام وانتقام” أغنية  ” امتى هتعرف امتى”  كلمات “مأمون الشناوي” وألحان “محمد القصبجي”، من مقام النهاوند على إيقاع التانجو هنا  نجد أن أسمهان ليست مجرد حالة، ولكن كان صوتها ماسي، استطاع الملحنين أن يستخدموا مساحاته ووضعه على المقامات الغربية في نغمات ساحرة، فكان الصوت اكتشاف وثورة جديدة في عالم الغناء وقتها .

من أكثر مغامرات  آسمهان  الغنائية سحراً ايضاً  أغنية ” ياحبيبي تعالى إلحقني شوف اللي جرالي” وقد تكون في الحقيقة مغامرة تركت بصمة برائعة صوتها تلك الأغنية التي كانت اصولها لفرقة كوبية مهاجرة لأمريكا  Cuarteto Machin   وهي اغنية  el huerfanito وتعبر عن معانتهم من اليتم وانهم بلا ام او اب اواخوة  وكان هذا عام 1930 والتي  اقتبسها الملحن مدحت عاصم ليكتب عليها الكلمات المؤلف أحمد جلال وكان في هذا الوقت يقوم بتأليف وإخراج فيلم ” زوجة بالنيابة” تقوم زوجته ماري كويني ببطولته وحتى يثبت حبه لها كتب تلك الكلمات ليعبر لها عن حبه في هذا اللحن المميز لكن في الواقع الأغنية لم تلقي الاهتمام الذي كان ينتظرونه خصوصا ان اللحن مختلف على آذان المستعمين كان انتاج الفيلم عام 1936  ولكن عندما  عادت اسمهان وارادت ان تعود بمنافسة قوية عرض مدحت عاصم على احمد جلال ان يعيدون توزيع الاغنية بشكل مختلف وتغنيها مطربة اخرى ولكن احمد جلال رفض لانه قصد تلك الاغنية لزوجته معبرا لها عنه حبه ولكن عند اصرار مدحت عاصم  واخباره ان آسمهان هي التي ستغني الاغنية قرر أحمد جلال الموافقة بعد سماعه واعجابه وسحره من صوت آسمهان وتم انتاج الاغنية عام 1940وكانت الأغنية لها  سحر مختلف بصوت آسمهان واحساسها مازال مؤثراً إلى الآن على الرغم من ان تلك المعلومات تداولها البعض منذ فترة قليلة واتهام البعض لماري كويني او  لأسمهان بسرقة الأغنية لكن تلك الفترة كان اقتباس بعض الألحان الغربية في ذلك الوقت معروف نظراً لظهور بعض الدماء الجديدة للموسيقى مثل ظهور الفنان فريد الأطرش ومحمد فوزي وهذا سنتحدث عنه في المقالات القادمة.

في حياة  أسمهان أربعة قصص كانوا ذات تأثير قوي على حياتها، كانت ثورة الدروز في سوريا، وثلاث أجهزة مخابرات الألمانية والفرنسية والبريطانية، ففي عام 1925  قامت ثورة الدروز في سوريا ضد فرنسا، عندما أعلنوا الانتداب على سوريا وضربوا جبل الدروز، كانت أسمهان تبلغ من العمر عشر أعوام، وآخذتها والدتها إلى القاهرة ومن القاهرة بدأت حياتها الفنية قامت بعمل فيلمين “انتصار الشباب” و”غرام وانتقام” التي توفيت قبل أن تنهيه، البداية كانت عام 1940 وقت تحول حياة أسمهان في حياتها من الفن إلى السياسة حيث التقت بأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، التي ارتبطت به عاطفياً وكان وقتها على علاقة عاطفية بالملكة نازلي، والدة الملك فاروق، وكانت الملكة نازلي مصابة بمرض الغيرة والتسلط، في 25 ديسمبر حدث أن وزارة الداخلية أصدرت قرار بإنهاء  إقامة أسمهان بمصر ولابد أن تغادر خلال أسبوع، ولكن تدخل  حسين سري باشا رئيس الحكومة لإلغاء القرار بعد  تدخل الكثير لحل الموقف، بعدها تزوجت  من المخرج أحمد بدرخان، بعد أن تعرفت عليه في فيلمها الأول “انتصار الشباب” حتى تضمن عدم خروجها من مصر ولكن لم تدم الزيجة إلا شهوراً قليلة وانتهت.

في الحرب العالمية الثانية، عانت بريطانيا من خسائرها في الوطن العربي، على يد قوات فيشي المتحالفة مع دول “المحور” وبتعليمات من لندن لجأ  الجنرال كلايتون إلى أسمهان،  لكي تقنع زوجها السابق الأمير حسن الأطرش، وكان محافظ السويداء في سوريا بمعاونته معهم، وأن يكون حليفاً لطرد العملاء الألمان من الشام، وعندما وصلت أسمهان إلى الأمير حسن لتقنعه بعرض كلايتون، اشترط عليها الزواج مرة اخرى ووافقت أسمهان، ولكنها لم تتحمل كثيراً، فقد تعودت على حياة الترف والسهرات، وبعد إلحاح  منها وافق الأمير حسن مرة أخرى على الطلاق، وقيل وقتها عن طريق المخابرات البريطانية، أن أسمهان قررت التعامل مع المخابرات بشكل مزدوج، نظراً لقلة النقود فقررت التعامل مع المخابرات الفرنسية أيضا، وكانت قد تزوجت المخرج أحمد سالم لكنه كان دائم الخلاف معها .

في فيلم غرام وانتقام طلبت أسمهان أجازة للذاهب إلى “رأس البر”  مع مديرة أعمالها وصديقتها ” ماري قلادة ” إلا أنهما عند عودتهما قلبت السيارة في ترعة ” …”  غارقتان ونجاة السائق وعند التحقيق اقر  السائق انه قفز من السيارة قبل الانقلاب إلا أن أسمهان وماري لما يستطيعا القفز فالقيتا حتفهما غارقتان،ولدت فوق الماء لتموت بداخله،  الشائعات والتخمينات كانت كثيرة مابين الملكة نازلي والمخرج احمد سالم والمخابرات البريطانية وحتى طليقها حسن الأطرش .اللغز لم يحل بعد وربما لن نستطيع حله، ولكنني أرى أجيال بعد أجيال تردد أغاني الصوت الساحر عن لوعة لحب ” امتى هتعرف امتى” ” يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي” صوتاً ربما لو كان  استمر لكان  أصبح قامة تستحق الدراسة والبحث في عالم الموسيقى .

إقرأ أيضا
أسامة الشاذلي

اقرأ ايضا

ماري عز الدين .. المطربة التي هزمت عبد الحليم حافظ

لم يصدق أخوها ” فريد الأطرش موتها” ظناً أنها شائعة كدعاية لفيلمها التي توفت ولم تكمله “غرام وانتقام” والذي قرر المخرج  ” اسم المخرج” أن ينهي الفيلم بوفاتها حتى يتمكن من عرضه، وكان أمامه إصرار الفنان “يوسف وهبي” على تصوير جثمانها وقت تشييع جنازتها ولم يستجمع فريد الأطرش، قوته ليقول لنا هل الوفاة كانت طبيعية أم بفعل فاعل ومن الفاعل، فقد اكتفي بإهدائها أغنية “يا زهرة في خيالي”، لم يرد فريد الأطرش أن تفتح أبواب نرى منها إسرار وخبايا حياة أسمهان، من المحتمل لأنها من عائلة الأمراء وأيضا لم تعرف ابنتها “كاميليا” التي توفت أسمهان يوم ميلادها طفلتها، وعندما ابلغوا والدها  كان وقتها احتفال بمولدها ولم تعرف كاميليا إلا بعد ثلاث شهور حين بعثها والدها إلى مدرسة داخليها بيروت، وعلمت من زملائها في المدرسة، حقاً ” أسمهان” ولدت بطلاسمها بصوتها وجمالها وحياتها الخاصة.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
12
أحزنني
5
أعجبني
7
أغضبني
1
هاهاها
2
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان