هكذا كان رمضاننا !
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
نجتمع على الطبلية في رمضان وأمامنا أطباق البازلاء بالبطاطس والخرشوف الممتلئة بقطع اللحم والتي لا أفضلها، أفضل عليها البطاطس بالمهاميط، وتطلق جدتي لأبي اسم “المهاميط” على تلك القطع من اللحم الأشبه بالكوارع، كم أعشقها وأعشق طريقة إعداد تلك البطاطس من يديها، يسيل لُعَابِي في فمي الذي كاد يجف من الظمأ وأنا أشاهد الدسم الممتلئة به تلك الأطباق المفضلة.
اقرأ أيضًا
هذا التقرير سيجعلك تدمع شجنًا أو تبتسم ارتياحًا “شريط حياتك سيمر هنا”
فوق الطبلية الكبيرة الممدودة والكبيرة جدًا هنالك أيضا أطباق معدودة من الأرز، وها هو صوت جدتي القادم من المطبخ يصيح : كل اتنين في طبق رز يا ولاد !
الجميع هنا يقفون في ذلك المطبخ الصغير، نساءًا وأطفالاً، تلك تمسك بالمقصوصة، تضع الأرز في الأطباق وتغرف الخضار المطبوخ، ثم تناولها لأخرى كي تضعها فوق الطبلية، وهذه تناول طفلها الملاعق كي يذهب بها لأبيه حتى يضع كل معلقة في مكانها، وهاهي جدتي تظهر أخيرًا، تحمل صينية ممتلئة بأكواب من البلح المبلل بقمر الدين والكاركاديه، توزع الأكواب أمام الجالسين، بينما رائحة قلي القطائف يملأ المكان.
بعد برهة يهدأ هذا الصخب ويسكن ذلك الضجيج، وها نحن نفترش الأرض في صمت منتظرين أذان المغرب بينما نستمع لحفيف الهواء يداعب الزينة المعلقة في الشارع الخالي.
في أول يوم من شهر رمضان نجتمع كما تعودنا كل عام في ذلك البيت، بيت جدتي لأبي، بأثاثه البسيط المتهالك، وجدرانه الصفراء الجيرية، وإضائته النيون التي تحتمي بها أرواحنا الصغيرة كيمام أبيض في قلب غيمة، بعد الإفطار تتسابق النساء والفتيات لغسل الأطباق وشطفها ووضعها في أماكنها وهن تُقْسِمْن بأغلظ الأيمانات أنهن لسن متعبات.
يُحضر أبي أكياسا من البمب، أفتح واحدة من تلك الكرات الملفوفة بإتقان وإحكام خلسة لأرى بضعة حبات من الحصى مغلفة بأوراق الكراريس وملفوفة بسلك من المعدن، ينقسم الحاضرون لفريقين، يتبادلون إطلاق البمب، وكالعادة أنضم لفريق أبي وأحتمي به من أصوات الفرقعات العالية، تتصاعد رائحة البارود، وتتعالى اصوات الضحكات ليملأ ذلك البيت البسيط.
قضت أمي الليلة السابقة في تحضير السحور، عودنا أبي أن نتسحر أول ليلة من رمضان بدجاجة كاملة مسلوقة، بالإضافة إلى أطباق من المكرونة البيضاء المشوحة في قطعة من السمن، أفضّل المكرونة بالصلصة، أخبر أمي بذلك فتقول بحنان : عشان متعطيش بكرة ! وعندما اشتد الغلاء وارتفعت الأسعار أحضر أبي كيلو من الكبد والقوانص لنتسحر به، فهو ليس بقادر على تحمل نفقات دجاجة كاملة لطعام السحور.
في ثاني أيام رمضان يكون إفطارنا عند جدتي لأمي ومع أخوالي وزوجاتهم، هنا حيث صاج الرقاق الكبير وشرائح اللحم الكثيرة المحمرة في قطع من السمن، هنالك أيضا صاج كبير آخر من الكنافة المحشية بالمكسرات، لا تنسى جدتي قبل حلول شهر رمضان بعدة أيام أن تعطينا ستة جنيهات ثم صارت عشرة، لنبتاع ونتخيّر فوانسينا، ففي كل عام عندنا فانوس مختلف، لا ينطق هذا الفانوس ولا يغني، ولكن تلك العصفورة الصغيرة الصفراء المحبوسة في قفصها الزجاجي تنير وتطفئ عدة مرات عندما نضغط على هذا الزر في أسفل الفانوس، وفي العام التالي نأتي بذلك الفانوس الذي ينير بشمعة تلسع أصابعنا الصغيرة عندما نضيئه.
نقضي بقية الشهر في بيتنا حيث يستضيف أبي أمه وإخوته مرة، وتعزم أمي أمها وإخوتها مرة أخرى.
لم ننس أبدًا موعدنا في الثالثة والنصف عصرًا مع فوازير عمو فؤاد والتي استمرت لعشر سنوات، ففي كل حلقة يقدم معلومات عن الفزورة التي لا نعرف كأطفال ما حلها، ولكننا دائمًا ما نسعد عندما تملأ الشاشة ابتسامة فؤاد المهندس الجميلة، ونصغي بإنصات لأدائه وصوته المميز الذي يغني قائلا : “عمو فؤاد عمو فؤاد راجع يا ولاد” و “عمو فؤاد عمو فؤاد بيلف بلاد”، ثم جاء عبد المنعم مدبولي بحلقات مسلسل جدو عبده والعمدة الآلي شرفنا يا خالي، التي علقت في أذهاننا، ونتذكر قبل الإفطار أيضًا موعدنا مع بوجي وطمطم، صوتا يونس شلبي وهالة فاخر اللذان كانا يلهيانا عن إزعاج أمي وهي تحضر الإفطار، وعندما يؤذن المغرب في القاهرة، وبعد أن يتلو الشيخ محمد رفعت بضعة آيات مما تيسر من القرآن الكريم، تستعد أمي لتحضير إفطارنا، وهاهو صوتها الآتي من المطبخ يتسائل : هو أذن في القاهرة ولا لسه؟؟! دائمًا أتساءل كيف حال من هم في القاهرة ؟! وكيف يضبطون وقت تحضير إفطارهم ؟! وعلى أي أذان تستعد الأمهات وتبدأن في تسخين الطعام ؟!.
بعد أن ننتهي من تناول الطعام تقوم أمي بإحضار ورقة وقلم لنحل فوازير نيللي وشريهان جميعنا، وذلك بالطبع بناءًا على رجائنا وزنّنا المستمر، وبعد انتهاء شهر رمضان بعدة أيام تضع الورقة في مظروف أبيض حوله نقوش زرقاء وحمراء، وتكتب فوق أحد جهتيه : اتحاد الاذاعة والتلفزيون ماسبيرو القاهرة وتببله بطرف لسانها ثم تغلقه، وفي اليوم التالي نذهب معها لنضعه في صندوق البريد الأزرق، بعد أن نشتري طابع بوسطى ونلصقه في إحدى أركانه.
ها هو صوت أبي ينطلق في صلاة العشاء التي تجمع بينه وبين أمي صادحًا بتلك الآيات المحببة لنفسه ونفوسنا «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
ننام بعدها مبكرًا، فلا سهر اليوم أمام مسلسلات، هذه الحلقات للكبار فقط، أما نحن فعلى موعد صباحًا مع المدرسة، فقط يوقظنا أبي للسحور، بأعين ناعسة نتناول بضعة لقيمات ثم ننام في أماكننا.
هكذا كان رمضاننا، الذي أصبح الآن كالهولوكوست الغذائي الاستهلاكي، الكل يتسابق ليخزن بداخل ثلاجته أطنان من الطعام، وكانت تلك فوانسينا التي صارت ممسوخة، تصدر أصواتًا مزعجة لا تتحملها الآذان للحظات، حُرّفت أشكالها لعرائس وعربات بأحصنة ودباديب وكورومبوهات دائما ما أراها مرعبة.
أما عن المسلسلات الآن فتبدو مكررة باهتة برغم تقنيات الإضاءة وجودة التصوير، فقط نجد أنفسنا نستجدي مجبرون سرعات الإنترنت وأسلاك السماعات لنشاهد حلقاتٍ مضت وفاتتنا، نضبط الهواتف لإيقاظنا بدلاً من أن نستيقظ على أصوات الآباء والأمهات.
طودٌ من الذكريات التي ترسخ في أذهاننا ولا نستطيع الفكاك من دائرتها، تقفز مخيلاتنا لتلك الأيام قبل أن يُمسخ كل شئ، سٌلبت منا أجمل سنواتنا عنوة ككل كتل العمر المنهوبة، دُلّس واقعنا وُدنّس، ثم استعر الجنون في كل شئ، وبقينا كاليتامى نندب الماضي حزنًا وجزعًا، فقط يكفينا أننا عندما يتشتت شعورنا تفيض ذكرياتنا علينا بإلحاح، تتراكم الصور في عقولنا كزخارف المعابد، كلما قدمت ازدادت قيمتها، كالأشجار العتيقة، يشتد عودها كلما مر الزمن، فقط تكفينا هذه السلوى.
فسلامًا على الأشواق…
وطوبى للمشتاقين….
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
رجعتينا لأحلى ايام يامريومه وكمان كانت تيته بتعمل احلى قرنبيط بالصلصه مع المهاميط عمرى ما وقت ذيه لحد دلوقت
فكرتيني صحيح قرنبيط تيته زينب
الله يرحمها ويغفرلها ويرحم ابويا والطيبين يا رب يا مونة