همتك نعدل الكفة
181   مشاهدة  

هل تلتفُّ السُّبَح على رقابِ مُمْسِكِيها في النِّهاية؟!

السُّبَح
  • - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد



في كل طريق يسير فيه الإنسان الآن ببلادنا ألوف السُّبَح حول أرساغ الناس وفوق صدورهم، وفي المحلات والأكشاك التي على جوانب الطرق، ربما بجانب بضاعة لا تمت لها بصلة، كانت السبحة فيما مضى رفقة عجوز في المسجد أو البيت، يعزي روحه بالتسابيح ويفك تيبس أصابعه، لكنها صارت مع الشبان والشابات كما الكبار وأكثر، وقد يجدها المتأمل الحالي مع الذين لا تناسب هيئاتهم وأوضاعهم أي معنى ديني أصلا، بعد أن أضحت موضة ما، لا تعبر بالضرورة عن تدين الحريصين عليها!

السُّبَح
السُّبَح

بالنسبة للتسبيح الذي هو المهمة الأولى للسبحة، أو المهمة الوحيدة التي من أجلها صنعت السبحة؛ فضل الأوائل أن يسبح الإنسان بأصابعه، أصابع يده اليمنى بالذات، وهي سنة النبي الأكيدة والأغلبية من صحابته، إنما القلة من استخدمت الحصى وما إلى ذلك، ومنه جاءت السبح، وقال المتأخرون الذين على خطى السابقين إن السبحة أضاعت الاتباع وأشاعت الابتداع؛ وعلى هذا تشدد بعضهم وعدها بدعة من البدع الواجب تركها، لكن عدها بعضهم الآخر من المحدثات المقبولات.. هذا عن الدين، غير أنني أشرت إلى أن السبحة لمعت لمعانا دنيويا في السنوات الأخيرة بالذات، ولا بأس بالأمر طبعا، فصار استعمالها للزينة وافرا جدا، للرجال والنساء على حد سواء، ولحيطان البيوت والسوح الطيبة، بل سوح الإبداعات الفنية وما إليها، وتقلدت وظيفة المباهاة بالإضافة إلى وظيفتها الأصلية؛ فباهى بها بعض الخلق خلقا آخرين في الفخامة والحسن، لا سيما الصوفية، وعندهم سبح مهيبة فائقة الجمال تطاول أحجام الرجال ضخام الأجثاث، وأقام لها التجار سوقا مخصوصة بعد أن راجت رواجا مدهشا، وأمعن في استخدامها الدجالون والمشعوذون لخداع المعتقدين السذج واستقطابهم بدعوى حل المعضلات المستجدة المعقدة التي لا حلول لها، وأعاد الناس سيرتها، بقوة، كهدايا ثمينة برتبة أحراز شعبية تحرس المواليد والصغار والأشياء الغالية من شرور الأعين الحاسدة ونفخ الشياطين، أعادوها، بآمال كبيرة في الحفظ وعناية الغيوب، بعد أن تجدد موروثها تلقائيا بتجدد ثقتهم في الاعتقادات البسيطة نفسها.. هذه أمور يبدو بعضها متصلا بالدين لكنه منفصل قدر اتصاله، والمهم أن السبح انتشرت في المجتمع انتشارا هائلا حقا وصدقا، بمعان متباينة وثيقة الارتباط بالحياة النشطة المتشعبة المتقلبة، بحيث أصبح تأريخ الفترة برمتها من خلالها مستطاعا!

سبحة
سبحة

السُّبَح أنواع كثيرة، من بينها المصنوعة من الخشب، والزجاج، والعقيق، والذهب، والفضة، واللازورد، واللؤلؤ، والكريستال، والياقوت، والزمرد،  والفيروز، والكهرمان، وشتى صنوف الأحجار الكريمة.. تنتظم حباتها خيوط من القطن والحرير أو البلاستيك والمعدن، وبعضها يحوي كماليات مرقشة أو ليست مرقشة، لكنها مستوية ومكتملة بالجملة، وضمنها الخالي من الرسم والكتابة وضمنها المرسوم والمكتوب عليه، الرسم كالرموز والأيقونات الإسلامية (المصحف، الكعبة، المسجد، القباب والمنابر، الزخارف التاريخية المنوعة) والكتابة كالآيات القرآنية واسمي الله ومحمد.

السُّبَح الخشبية والزجاجية هي الأكثر دورانا في أيدي الجميع، لأنها الأرخص، وبعض الأنواع الأخرى مرتفعة الأثمان إلى درجة لا تصدق، كما أن السبح عموما مختلفة الحبات من حيث العدد؛ فهناك الألفية (ألف حبة) وهي نادرة وقليلة الشهرة، وهناك السبحة التقليدية (عدد حباتها ثلاثة وثلاثون حبة بين كل إحدى عشرة حبة فاصل) والسبحة التي بعدد الأسماء الإلهية الحسنى (عدد حباتها تسع وتسعون حبة بين كل ثلاث وثلاثين حبة فاصل).

ليس الحديث عن الأنواع والأسعار وأعداد الحبات هو شاغلي هنا بالمرة، وإن كان ذكره يتمم جوانب الموضوع ويثريه، وإنما الشاغل هو قراءة المشهد الزاخر بالسبح كالبحر الزاخر بالأصداف: ما الذي جعلنا نهواها إلى هذه الدرجة؟! لماذا فشت هذا الفشو الأخاذ؟! كيف تخطت الكبار ووصلت إلى أيدي الصغار بهذه الكثافة المثيرة للانتباه؟!

يمكن أن نقول، مطمئنين، إن ذهاب الناس بعيدا عن جوهر الدين أدناهم من أشكاله، والسبحة واحدة من هذه الأشكال بالتأكيد، هذا تعلق بالدين بمنأى عن حقيقته المظنون ثقلها (آدابه العالية)، والوقت صار خفيفا لا يحتمل الثقل، أعني أنه عمق عاطفي تعويضي تملك القلوب، وبناء عليه كان لا بد أن تتزايد السلعة بتنامي أشواق طالبيها إليها؛ فالأسواق مليئة بالمراقبين الذين يتحسسون حاجات الخلق، والمنتجون جاهزون للعمل والبائعون للبيع، وأما حديثو السن فوجدوا في السبح وقارا مفتقدا، بعد أن اتهمهم الناضجون بالخضوع للتفاهة الحاضرة المسيطرة، ووجدوا فيها أيضا حميمية عوضتهم عن الشتات الاجتماعي الحاصل من فرط الانشغالات بالظروف المركبة الراهنة، السبحة لصيقة بصاحبها، هي بمنزلة أم ووالد وأخ وصديق، بل موسيقى رقيقة مصاحبة لإيقاع خطوات السائر، وإن في المسألة النغمية بذاتها ما يربط بشرا بالسبح، بمحاذاة دينيتها أو بعيدا عن مغزاها الديني، كذلك في أبعادها الشكلية واللونية الساحرة الخلابة، والتي تشبع اليافعين الباحثين عن الجاذبية التي يتصارع عليها المولعون بالتغير والتطور اللذين باتا سمة عصرية تنافسية، هكذا في الوقت الذي جرب المتقدمون أعمارا فيه السبح إلى مستوى الملل فزهدها كثيرون منهم، ولو خلدت لدى الباقين فإنها سكنت بأكنافهم أبديا بحكم الوجود الطويل قاتل العادة!!     

السُّبَح

شخصيا تربطني بالسبح علاقة شديدة الخصوصية؛ فأنا أجردها من استيلاء الدين عليها بالكلية، لكن لا أجردها من الدين نفسه بالكلية، هناك فرق، وعموما أعتبرها أنس صحبة، وكثيرا أعتبرها حصانة غير رسمية، بمثابة امتياز للذين لا يملكون دروعا في المعارك، ولقد غضبت وسررت في الوقت نفسه، حين أوقفني كمين شرطة بوسط القاهرة، في يوم كان جوه غائما، وفي أثناء عملية فحص هويتي، بتواصل القائد هاتفيا مع المركز الشرطي المختص، كان الأفراد يفتشون حقيبتي، ووجدوا سبحا كثيرة، فطلبوا بعضها ووافقت، كنت أريد أن أنهي الموقف، وكانوا لا يبالون بي، وإن كنت شعرت حينها أنني عطرت جو العربة بنفحاتي الأثيرة، كانت هدايا أحمل مثلها على الدوام لأصدقاء وغرباء أصادفهم في طريقي، لا أمنحها لأي صديق ولا غريب، لكن لمن تناديني دواخلهم، بطريقة ما، فأفعل راضيا.. وقد أقول ولا يفهمني أحد: إن الشخص ينادي سبحته، وهي تعرفه يقينا من قبل أن يلتقيا ببعضهما!

إقرأ أيضا
تعزيز الصحة النفسية

اقرأ أيضًا 
“صلاة العاشقين” .. المسبحة عبر التاريخ

لي تصور خاص أخير بشأن السُّبَح قد يبدو عجيبا إلى حد كبير، هو أن للسبحة كنها غامضا، مثل باب مغلق، من لا يدركه بوجدانه من ملازميها فقد يذوق خطرا جسيما بالفعل؛ إذ قد تلتف السبحة على رقبته في الآخر، وتؤذيه أذى بالغ الأثر إن لم تشنقه فتهلكه، هكذا بعد أن كانت لعبة يسيرة في قبضته!

الكاتب

  • السُّبَح عبد الرحيم طايع

    - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان