139 مشاهدة
هل كانت الاتفاقيات الإبراهيمية جسرًا للسلام أم مجرد بوابة عبور اقتصادي مشروطة؟

منذ إعلان الهدنة الأخيرة في قطاع غزة، عاد الحديث مجددًا عن الاتفاقيات الإبراهيمية التي روّج لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، باعتبارها بوابة السلام في منطقة عُرفت بتعقيد علاقاتها وتشابك صراعاتها. ومع تصاعد وتيرة التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل منذ عام 2020، يتجدّد التساؤل الحتمي: هل جنت الدول العربية مكاسب حقيقية من هذه الاتفاقيات؟ أم أن الكفة رجحت لمصلحة إسرائيل وحدها؟
كيف بدأت الاتفاقيات الإبراهيمية؟
تعد الاتفاقيات الإبراهيمية محاولة لتقنين العلاقات السياسية والاقتصادية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، في مقدمتها الإمارات، البحرين، السودان، والمغرب. وقد بدأت فعليًا بالإعلان عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة في 13 أغسطس 2020، تلاه توقيع رسمي في البيت الأبيض يوم 15 سبتمبر 2020 بحضور ترامب، لتدخل الاتفاقية حيّز التنفيذ الكامل في 5 يناير 2021.
نصّت الاتفاقيات على “تطبيع كامل” يشمل قطاعات متعددة منها: الاقتصاد، الطيران، الفضاء، الصحة، الزراعة، الأمن الغذائي، المياه، التعاون القانوني، التكنولوجيا، الثقافة، السياحة، التعليم، البيئة، والطاقة.
أولى خطوات هذا التعاون كانت مع رحلة تجارية تاريخية من إسرائيل إلى الإمارات عبر شركة “العال” الإسرائيلية، في 31 أغسطس 2020، حملت على متنها مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين، بهدف بحث ملفات التعاون الثنائي.
الإمارات.. المكاسب العسكرية والاقتصادية أولًا
كانت الإمارات السبّاقة في جني ثمار التطبيع من خلال توقيع صفقة عسكرية ضخمة في 20 أكتوبر 2020، تضمّنت شراء 50 طائرة F-35 من الجيل الخامس و18 طائرة مسيّرة من طراز MQ-9 Reaper، إلى جانب ذخائر موجهة بدقة، بإجمالي تكلفة بلغت 23 مليار دولار. هذه الصفقة مثلت تحديثًا كبيرًا للأسطول الجوي الإماراتي الذي كان يعتمد سابقًا على طائرات F-16.
اقتصاديًا، شهد التبادل التجاري بين الإمارات وإسرائيل طفرة كبيرة، حيث بلغت قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى الإمارات نحو 637 مليون دولار عام 2022، بينما وصلت الصادرات الإماراتية إلى إسرائيل إلى 1.73 مليار دولار. وقد بلغ التبادل التجاري ذروته في أكتوبر 2024 عند 269.3 مليون دولار، وفقًا لبيانات المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل.
البحرين.. التطبيع من بوابة الأمن والنمو الاقتصادي
أعلنت البحرين انضمامها إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في 11 سبتمبر 2020، ووقعت رسميًا على الاتفاقية في مراسم بالبيت الأبيض في ذات اليوم الذي وقعت فيه الإمارات. دوافع البحرين لم تكن اقتصادية فحسب، بل أيضًا جيوسياسية وأمنية، في ظل العداء المشترك مع إيران.
تشير دراسة صادرة عن جامعة البنجاب إلى أن البحرين – بحكم صغر حجمها الجغرافي والديموغرافي – وجدت في إسرائيل حليفًا قويًا تقنيًا وأمنيًا، وفي الإمارات شريكًا اقتصاديًا رائدًا في المنطقة. وكانت تطمح لأن تكون جزءًا من محور تقني اقتصادي تقوده الابتكارات في الأمن السيبراني، الصحة الرقمية، والتكنولوجيا المالية.
وقدّر تقرير صادر عن مؤسسة RAND أن التطبيع قد يخلق للبحرين نشاطًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 1.6 مليار دولار، وزيادة بنسبة 0.8% في الناتج المحلي الإجمالي، مع توفير 1,700 وظيفة خلال 10 سنوات. وإذا تطورت الاتفاقيات نحو تكامل إقليمي، فإن النمو قد يصل إلى 2.3% من الناتج المحلي وخلق 4,600 وظيفة.
لكن رغم تلك التطلعات، تراجع حجم الواردات البحرينية إلى إسرائيل من 16.5 مليون دولار عام 2020 إلى 6.01 مليون دولار عام 2024، بحسب بيانات COMTRADE، مما يعكس أثر التوترات السياسية في المنطقة، ولا سيما بعد حرب غزة.
الأهم من ذلك، أن التطبيع في البحرين لم يلق دعمًا شعبيًا؛ فقد واجه معارضة واسعة من جمعيات سياسية ونقابات عمالية، وأطلق الناشطون حملات مناهضة تحت وسم “البحرينيون ضد التطبيع”، كما شهدت البلاد احتجاجات صغيرة رغم القيود المفروضة على التجمعات.
السودان.. تطبيع مضطر على أمل رفع العقوبات
في أكتوبر 2020، أعلن ترامب أن السودان انضم إلى الاتفاقيات، وكان 14 ديسمبر من نفس العام هو موعد شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، تبعه التوقيع الرسمي في الخرطوم في يناير 2021.
دوافع السودان كانت اقتصادية بامتياز؛ فقد كانت البلاد ترزح تحت دين خارجي يتجاوز 59 مليار دولار، مع تضخم جامح ومعدلات فقر مرتفعة. ووجدت الحكومة الانتقالية في التطبيع وسيلة للحصول على قرض أمريكي بقيمة مليار دولار لتسوية متأخرات البنك الدولي، إلى جانب مساعدات سعودية وإماراتية وصفقات للقمح والنفط بقيمة 1.2 مليار دولار.
كما استهدف السودان من التطبيع بناء علاقات مع الجيشين الأمريكي والإسرائيلي، وهو ما ترجم لاحقًا بزيارة وفد من القيادة الأمريكية الإفريقية إلى الخرطوم، ما يشير إلى نية السودان إقامة شراكات أمنية طويلة الأمد.
المغرب.. مكاسب دبلوماسية أكثر منها اقتصادية
في 10 ديسمبر 2020، اعترفت الولايات المتحدة رسميًا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو ما مثّل الدافع الأكبر وراء قرار الرباط بالتطبيع مع إسرائيل. وقد تم توقيع إعلان ثلاثي مشترك في الرباط يوم 22 ديسمبر بحضور ممثلين عن الدول الثلاث.
في ديسمبر 2021، تم توقيع اتفاق دفاعي غير مسبوق بين المغرب وإسرائيل، شمل التعاون في مجالات الأقمار الصناعية، الطائرات بدون طيار، والأنظمة الاستخباراتية، إضافة إلى مشاريع للصناعات الدفاعية داخل المغرب.
ورغم عدم تحقيق المغرب لقفزات اقتصادية كبيرة نتيجة التطبيع، إلا أن التعاون الزراعي والرقمي شهد تطورًا، كما بدأت إسرائيل في استيراد السيارات من المغرب بدلًا من تركيا، بالإضافة إلى بروز شراكات أكاديمية مع جامعات مغربية مثل جامعة محمد السادس.
وبحسب مركز TRT World Research، فإن أبرز ما كسبه المغرب هو تعميق علاقته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وتقديم نفسه كحليف غربي “معتدل” في مواجهة التحديات الإقليمية، لا سيما مع الجزائر.
حرب غزة وتراجع الحماسة
لكن كل تلك المكاسب وُضعت تحت المجهر مجددًا بعد اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر 2023. ففي تحليل لمؤسسة كارنيغي نُشر في أبريل 2025، أوضح أن الحرب غيّرت من سياق العلاقات، حيث شهدت العلاقات فتورًا ملحوظًا، وتجمّدت مشاريع مثل استغلال حقل “ليفياثان” الغازي المشترك بين إسرائيل و”أدنوك” الإماراتية و”بي بي” البريطانية.
كما تراجعت السياحة الإسرائيلية إلى الإمارات والمغرب، وغادر السفير الإسرائيلي المنامة، رغم عدم انسحاب البحرين رسميًا من الاتفاق.
ورغم ذلك، لم تنقطع كافة أشكال التعاون. فقد تم تدشين طريق بري بديل يربط بين إسرائيل والإمارات عبر الأردن والسعودية لتفادي هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، كما استمرت الشراكات الأكاديمية والتجارية في بعض القطاعات غير الحساسة.
مكاسب مرهونة بثمن سياسي باهظ
اللافت أن كل دولة عربية دخلت إلى الاتفاقيات الإبراهيمية بدوافع مختلفة؛ الإمارات للحصول على تحديثات عسكرية وتوسع اقتصادي، البحرين لأسباب أمنية واقتصادية، السودان لرفع العقوبات والدعم المالي، والمغرب لتحقيق مكسب دبلوماسي استراتيجي.
لكن العامل المشترك بينهم كان البحث عن دعم أمريكي مباشر أو غير مباشر، والانفتاح على التكنولوجيا الإسرائيلية. وفي المقابل، جاءت الحرب الأخيرة لتكشف هشاشة تلك التحالفات أمام تصاعد الغضب الشعبي في الشارع العربي، وتراجع الدعم الداخلي لأي شكل من أشكال التقارب مع إسرائيل.
ربما تبقى إسرائيل هي المستفيد الأبرز من تلك الاتفاقيات، باعتبارها القوة المُطبّع معها، والمستثمر الأجنبي الذي كسر الجدار العربي المغلق لعقود. ولكن يبقى الحكم الحقيقي على الاتفاقيات رهينًا بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، خصوصًا في ظل تعاظم المقاومة الفلسطينية وتحوّل الرأي العام العربي إلى رافض مجددًا لأي تطبيع لا يسبقه حل عادل للقضية الفلسطينية. فهل كانت تلك الاتفاقيات جسرًا للسلام أم مجرد بوابة عبور اقتصادي مشروطة؟ يبقى الجواب مرهونًا بما ستكشفه السنوات المقبلة من تحولات إقليمية وجيوسياسية.
اقرأ أيضًا : الغزاوية.. بين قصف الاحتلال ورصاص حماس
الكاتب
ما هو انطباعك؟









