وثائق وفاة الشيخ محمد عبده .. حدثت يوم صدور شهادة ميلاده وابنته ماتت حزنًا عليه
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
جاءت صدف قدرية شديدة الغرابة بين تاريخ وفاة الشيخ محمد عبده والمكان الذي مات فيه، وكأنما الزمان والمكان كانا هما عنصري حياة الإمام تحولاً وموته شجنًا.
وفاة الشيخ محمد عبده ومآسي الصدف الزمانية والمكانية
تحولت حياة الشيخ محمد عبده جملةً وتفصيلاً يوم 11 يوليو سنة 1882 م، فقبل ذلك التاريخ بـ 5 سنوات كان محمد عبده مدرسًا للمنطق في الأزهر ومعلمًا للتاريخ في دار العلوم، وأستاذًا للعربية في مدرستي الألسن والإدارة، وكان نشاطه المأخوذ عليه هو صلته بجمال الأفغاني، فقررت الحكومة تحديد إقامته في قرية محلة نصر مركز شبراخيت محافظة البحيرة.
صدر العفو من الخديوي توفيق عن محمد عبده بتوصية من رياض باشا، فعاد إلى القاهرة وعمل بالصحافة سنة 1880 م حيث مسئولية الوقائع المصرية والرقابة على المطبوعات، ثم صار في سنة 1881 م عضوًا في المجلس الأعلى للمعارف العمومية.
بدأت الأحداث السياسية تطور داخل مصر فكان ظهور أحمد عرابي على المسرح السياسي، وقد عارض محمد عبده أن يكون العرابيين طرفًا في أي صراع لرفضه دخول الجيش في السياسة، ليتحول إلى عدو شرس للخديوي توفيق والإنجليز بعد قصف الإسكندرية يوم 11 يوليو 1882 م.
بعد فشل الثورة العرابية وسقوط مصر في الاحتلال تقرر نفي محمد عبده إلى بيروت سنة في 24 ديسمبر 1882 وظل بها سنة ثم سافر إلى باريس ولم يعود إلى مصر إلا في سنة 1889 م وترقى في المناصب بعد ذلك على النحو المشهور.
تكرر تاريخ يوم 11 يوليو في حياة الإمام مرة أخرى لكن في عام 1905 وفي الإسكندرية، لكنه كان تاريخ وفاته حيث مات في منزله بمحطة الرمل، وكأنما أراد الله له أن يموت في نفس زمن ومكان الحدث الذي غير حياته تمامًا.
أعجوبة الأعاجيب أيضًا أن الشيخ محمد عبده مات يوم أن صدرت له شهادة ميلاد حكومية، ولم تصدر له شهادة ميلاد حكومية إلا من أجل إنصافه ماليًا.
رغب محمد عبده في مارس سنة 1905 في أن يتم حساب مدد خدمته في سنوات النفي فقدم استرحامًا للخديوي عباس حلمي الثاني في عدم حرمانه من حسبان مدة خدمته.
وهو ما تحقق في شهر يونيو وكان سيتقاضى راتبه في آخر يوليو 1905 إلا أنه مات في يوم 11 منه. !.
اللحظات الأخيرة في حياة الإمام
بدأ مرض الكبد يطرق بطن الإمام محمد عبده حتى افترسه قبل عام من موته أثناء رحلة علمية أجراها إلى السودان، ودخل المرض جسده في مايو سنة 1905 م وقرر الأطباء أن يسافر إلى أوروبا ثم تراجعوا عن ذلك لما فيه من خطورة على حياته ورشحوا له المكوث بالإسكندرية لعمل رعاية هناك.
ظل محمد عبده طيلة أسبوع يكابد آلام الكبد في منزله بالإسكندرية إلى أن دخل في غيبوبة كبدية فاق منها قبل وفاته بساعات ثم فارقت روحه الحياة في الساعة الخامسة مساء يوم 11 يوليو 1905 م.
أسرة الشيخ محمد عبده بعد وفاته .. مآسي ومعاش
رحل الشيخ محمد عبده تاركًا أسرة لم ينجب لها ولدًا وإنما 4 بنات هن «عائشة ومريم وفاطمة وهانم» إلى جانب أمهن السيدة رضا حمادة، ووقت وفاته كانت اثنتين من بناته تحت كفالة عمهما المحامي حمودة عبده وهما عائشة وكانت في سن صغيرة ومريم التي كانت كفيفة البصر، أما ابنتيه فاطمة وهانم فكانتا متزوجتين من شقيقين، فكانت فاطمة زوجةً للمحامي محمد يوسف، بينما هانم تزوجت المحامي عثمان يوسف.
مات محمد عبده قبل أن تقوم الحكومة بحساب مدة خدمته في سنوات النفي، وصدر إعلام الوراثة لمعاشه بعد وفاته بشهر أسماء ورثته الشرعين وكانت بناته من ضمنهن، لكن المأساة لم تتوقف عند هذا الحد إذ أن ابنته هانم لم تتحمل خبر وفاة أبيها فماتت بعد أسبوعين من رحيله.
أما زوجته رضا حمادة فكان معاشها الشهري يبلغ 1 جنيه و 583 مليم من سنة 1905 حتى عام 1929 م، ثم تقرر زيادة معاشها إلى 15 جنيه ويصرف لها مدى الحياة.
جنازتين بصلاة جنازة واحدة
من المرويات في وفاة الشيخ محمد عبده أنه مع بداية العام 1905 م تنبأ فلكي مصري بوفاته عن طريق نتيجة تقويم كانت تُعْرَف باسم نتيجة الزرقاوي وكان فيها أبيات أشعرية من ضمنها بيتين يقولان:
ألا يا رحمة الرحمن صُبِّي * على قبر حوى روح الإمام
ويا ذا الأزهر اندب ليث * غاب فمن يفتى إذا الأستاذ نام.
نام بالفعل محمد عبده النومة الكبرى وهي الموت في 11 يوليو 1905 م وبدأ تشييع جنازته في الساعة العاشرة صباح اليوم التالي بجنازتين تكفلت الحكومة المصرية بنفقاتهما، كانت الأولى في الإسكندرية والثانية بالقاهرة.
نقل جثمان محمد عبده في نعش ملفوف بالكشمير من منزله إلى منزل محمد راسم بك في محطة صفر بعربة مخصوصة من الترام وكان بجانب النعش محروس أفندي عبده وعلي عبده شقيقا الراحل.
في الإسكندرية كانت الجنازة عسكرية شعبية حيث تحرك الجثمان من محطة الرمل إلى محطة المسلة ومنها إلى محطة الباب الجديد عن طريق شارع النبي دانيال، وكانت جنازة محمد عبده عسكرية شعبية في سابقة لم تكن لأحدٍ من علماء الأزهر قبله، وأثناء سير النعش من محطة الرمل إلى محطة السكة الحديد دقت كنائس باكوس الأجراس على الشيخ محمد عبده.
تولى مهام تنظيم جنازة الإسكندرية اثنين من الضباط المصريين وهما اليوزباشي علي أفندي حمدي فهيم، واليوزباشي حسين أفندي لطفي، إلى جانب اثنين من الأجانب وهما واليوزباشي فافيرو والملازم أول ديدمان، وجميعهم تحت إشراف مساعدة الحكمدار وبمعاونة الصاغ أوكولهم والصاغ ريماندا، وضباط خفر السواحل بقيادة البكباشي استاني، وفريق من عمال الجمارك بقيادة المأمور، وفرقة من ضباط الفرسان.
كان نعش محمد عبده ملفوفًا بالكشمير وحمله 10 من ضباط وصف ضباط خدمة بلوك السواري والخفر، وقدمت أقسام البوليس 118 كونستابل للتأمين «15 كونستابل من قسم العطارين، و 15 كونستابل من المنشية، و 15 كونستابل من مينا البصل، و14 كونستابل من محرم بك، و 14 كونستابل من الجمرك، و 14 كونستابل من اللبان، و 9 من كرموز، و 8 من عساكر المراسلات، و6 من أساس المخازن، و 4 من ضباط عساكر السكة الحديد، و3 من عساكر البوستة والمجلس البلدي، و 1 من أساس الورش».
حضر الجنازة الأولى في الإسكندرية عدد من الشخصيات ظلوا معه حتى وصوله للقاهرة وإجراء الجنازة الثانية، وأبرز الحاضرين كانوا حسين فخرى باشا «ناظر المعارف والأشغال» وكيلا عن الخديوي عباس حلمي الثاني، مصطفى رياض باشا «رئيس الحكومة السابق» ونجله محمود مصطفى رياض، محمد باشا عباني «ناظر الحربية والبحرية، أحمد مظلوم باشا «ناظر المالية»، وإلى جانبهم يعقوب أرتين باشا «وكيل نظارة المعارف» وعبدالحليم باشا عاصم «مدير ديوان الأوقاف العمومية»، وإبراهيم باشا نجيب، و محمود فهمي «مدير أقلام المعية».
وانضم للجنازة أحمد بك يحيى «عضو المجلس البلدي»، وعزيز كحيل بك «مستشار محكمة الإستئناف الأهلية»، ومحمد راسم بك «مستشار محكمة الاستئناف»، والمستر فندلي «القائم بأعمال الوكالة الإنجليزية»، والمستر إنس «وكيل المالية»، وعزت باشا «وكيل الخارجية»، وصالح باشا ثابت «رئيس محكمة الاستئناف»، حافظ بك محمد «وكيل محافظ الإسكندرية»، وإسماعيل صدقي «سكرتير البلدية».
وحضر الجنازة أيضًا، الأميرلالي بكنس بك «حكمدار البوليس»، زكي بك «سكرتير مجلس النظار»، موسيو رالي «وكيل المجلس البلدي»، موسيو برند «القائم برئاسة مجلس الفورنتينا»، زنانيري بك «سكرتير مجلس الفورنتينا»، شاهين مكاريوس «صاحب جريدة المقطم»، رشيد بك شميل «صاحب جريدة البصير»، حسن مظلوم «سكرتير موسيو شيتي مدير عموم الجمارك»، ميشيل أيوب بك «مراقب عموم الجمارك، وشراباتي بك «رئيس قلم قضايا الحكومة»؛ وإلى جانب الشخصيات العامة حضر الأهالي وتلامذة مدرستي العروة الوثقى ومكارم الأخلاق.
في تمام الواحدة ظهرًا توقف القطار عند محطة طنطا، كون أن ميلاد محمد عبده كان بها، فهو من مواليد حصة شبشير، وطلب حسن باشا رضوان مدير الغربية جمع الأهالي والأعيان للوقوف على المحطة وتوديعه فحضر وكيله ورئيس محكمة طنطا ووكيلها وقضاة الغربية وقيادات بوليس البندر ومئات من الأعيان إلى جانب طلبة المدارس.
وصل الجثمان إلى محطة مصر الساعة الرابعة عصرًا وكان في استقباله أشقاءه ومعهم قاضي القضاة الشرعي والشيخ حسونة النوواي والشيخ علي الببلاوي شيخا الأزهر السابقيين، ومصطفى باشا فهمي «رئيس الحكومة ووزير الداخلية»، والمستر متشل «مستشار الداخلية»، وإسماعيل صبري «وكيل الحقانية»، والمستر برونيت «مستشار الحقانية»، وصفوت بك «المحامي العام»، واللورد سسل «وكيل حكومة السودان»، والكولونيل كولفيل «قائد الجيش الانجليزي»، وقنصل إيران، ومدير مصلحة الصحة، إلى جانب الشخصيات التي حضرت معه من الإسكندرية، و علي بك شاهين «نائبًا عن الخديوي»، ومحمد باشا صادق «رئيس مجلس إدارة الأوقاف»، والسير هوارس بتشنج باشا ومنسفيلد باشا «حكمدار البوليس»، وحداد بك «وكيل قسم الضبط»، وسعد زغلول وقاسم أمين.
نظم جنازة القاهرة الضابط أحمد أفندي عفت، وحمل النعش من محطة مصر 6 من طلاب الأزهر، وسلك الموكب من شارع نوبار ثم شارع كامل ثم ميدان الأوبرا ثم شارع البوستة، ثم ميدان العتبة والموسكي وتعطلت الأعمال التجارية في تلك المناطق.
ثم موكب الجنازة من محطة مصر إلى الجامع الأزهر، وتخلف الشيخ عبدالرحمن الشربيني شيخ الأزهر عن أداء صلاة الجنازة لظروف صحية، وصلى عليه الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر والمفتي السابق، وكان مقيم الصلاة الشيخ علي الببلاوي.
بعد انتهاء الصلاة الجنازة حاول بعض علماء الأزهر إلقاء قصيدة شعر في وداعه لكن الشيخ عبدالكريم سلمان رفض ذلك تنفيذًا لوصية الشيخ محمد عبده، ثم سار موكب النعش من الجامع الأزهر إلى مقبرته بحضور 3 آلاف شخص.
دفن الشيخ محمد عبده
دُفِن الشيخ محمد عبده في مقبرته الكائنة حاليًا بمدافن صلاح سالم، وعند الدفن قال أحد الشعراء:ـ
قد خططنا للمعالي مضجعًا * ودفنَّا الدين والدنيا معًا.
ومنع الشيخ عبدالكريم سلمان وضع منصة عند القبر وقت الدفن لإلقاء الشعر تنفيذًا لوصية محمد عبده، ثم رأى حسن باشا عاصم كثرة الناس وحزنهم فأعلن عن إقامة ليلة تأبين يوم الأربعين عند قبر محمد عبده وتقرر أن يقوم خمس شخصيات بإلقاء كلمات التأبين وهم حسن باشا عاصم «صديق الشيخ محمد عبده»، الشيخ أحمد أبو خطوة «قاضي المحكمة الشرعية»، حسن باشا عبدالرازق «عضو مجلس الشورى»، قاسم أمين «المستشار في محكمة الإستئناف»، حفني ناصف «قاضي محكمة مصر الأهلية»، وحافظ إبراهيم «الشاعر وتلميذ محمد عبده».
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال