همتك نعدل الكفة
425   مشاهدة  

وكانت أعيادنا

عيدنا وعيدهم


عيدنا : هذا الحذاء وهذه البلوزة، هذا الشراب وهذه الجيب، توك ملونة لشعري المغسول اليوم، كلهم في أماكنهم المعتادة بداخل الدولاب معلقون فوق الشماعات… تمام.

كلا لن أتركهم هاهنا، على أطراف أصابعي أتسلل لغرفة أمي التي تغط في سابع نومة، منهكة هي من ترتيب المنزل في اليوم السابق، أفتح الدولاب وأخرج الملابس، وفوق كراسي الصالون الفرنسي الصغير المذهب أرصهم بحرص خشية أن أكرمش ما قد كواه أبي من هدوم العيد، أجل فغدًا العيد، غدًا العيد.

– بكرة العيد ونعيد وحندبحوا الشيخ سيد، بكرة الوقفة وبعده العيد وحندبحوا الشيخ سعيد.

– يا حمقاء هذا عيد الكحك وليس عيد اللحم..

– وماله ؟!!.. بكرة الوقفة وبعده العيد وحناكلوا كحك العيد.

حديث ضاحك يدور كل عام بيني وبين شقيقتي..

قبل ذلك اليوم بأسبوع يُحضر أبي عشرات الأكياس من الدقيق، وتجمع أمي أغراضنا لنذهب إلى بيت جدتي لأمي، نقضي هناك أيام نعجن ونقرّص ونشكّل وننقش ونخبز، رائحة السمن المصهور تتسلل لأنوفنا، أيادي تقطع العجين، تحشو تلك القطعة بالعجوة وهذه بالملبن، ماكينة بسكويت يدوية تدور نتناوب عليها أنا وشقيقتي، قرنفل وسوداني يوضع فوق قمة الغريبة، مربى يُلصق بها قطع البيتيفور، سكر أبيض ناعم يُرش فوق الكعك المخبوز، صاجات سوداء تُحمل فوق الرؤوس، تدخل وتخرج في ذلك البيت الرحب.

تقطّع جدتي قطعة كبيرة من العجين وتناوله لنا وهي تخبرنا ضاحكة أن نشكله كما نرغب ونحب، نصنع منه كرات وضفائر، وجوه وعرائس صغيرة، وعندما يُخبز لا ننتظر العيد، نأكل هذه الأشكال فور نضوجها بعد أن تصبح غريبة الأشكال، ثم يُقسم الكعك بيننا وبين جدتي، ونعبئه في عشرات العلب الكرتونية، يُهدي به والداي الأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء.

وها نحن نتناول ذلك الكعك المصنوع في كل بيت ندخله صباح العيد، حتي تكاد معداتنا أن تنفجر، عندما يدور أبي دورته المكوكية السنوية على بيوت جدتاي وأعمامي وعماتي، وذلك بعد أن نفطر بيضًا بالبسطرمة وجبنة تركي، وبالطبع بعد ان نرتدي هدوم العيد ونضع التوكات الملونة، وبعد أن نذهب للصلاة بتكبيراتها وتهليلاتها في مسجدنا المفضل، ثم يقوم أبي بشراء البالونات والطبلة والرق والزمامير، وكذلك هذا الأراجوز الخشبي الموضوع فوق عجلات، والذي يرتدي ورق الكوريشا باللون الفوشيا، ويصقف بصاجين معدنيين عند تحريكه.

نجتمع عن جدتي لأمي، نتناول طعام الغداء، هنا حيث الفسيخ والرنجة والملوحة والسردين، والأحاديث الشيقة والضحكات التي تملأ هذا البيت حيث المشاعر الحقيقية لا البلاستيكية!

في الأيام التالية يأتينا أصدقاء أبي من المسيحيين، يردون زياراتنا لهم في أعيادهم، يأتون حاملين أنواع فخمة من الشيكولاته، حاملين كذلك البهجة والود.

تنبعث من الذاكرة رائحة طفل لم يكبر، بعد كل ما رأى وسمع واختبر، لازلت طفلة أنشد تلك الأيام الخوالي، لا شيء يزن رائحة تلك السنوات ليُقايضها، شعور يشبه اجتزاء كبد الذاكرة، روحًا مكتظة بالثقوب لفرط ما اخترقته تلك الملامح المصطنعة في صور فارغة من الشعور، وهذه التحايا الزائفة التي لا تخرج دائرة عن المجاملات، شعور كمحيط يتسرب من شق سفينة أبحرت بنا سنوات واخترقتها سهام الشبكة العنكبوتية فأغرقت جيلنا وأغرقت الأجيال التالية، أفكار هدامة استعبدتنا، أغلال طوقت عقولنا، ومجادلات في أبسط حقوق للإنسان.

إقرأ أيضا
رمضان

الآن أجلس أمام تلك الشاشة اللعينة، أتصنع الضحكات، وأهنئ الأقارب ويهنئونني بعبارات جوفاء مختصرة :

كل عام وأنتم بخير وسلام…

الخير يا قوم ليس كلمة، ليس إنشاء رسائل مكررة، والسلام أن نؤمن أولًا باحترام الإنسان، الخير والسلام ليسا مجرد كلمات، بل سلوك طيب وأخلاق وفكرة للحرية، فلا تتداولوا هذه العبارات والتحايا قبل الإيمان بها، وقبل تطبيقها.

إن الانحلال تضاد بين الفعل والكلام.

العيد الدموي .. قصة حادث مديرية أمن أسيوط 1981 م

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
11
أحزنني
8
أعجبني
8
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
7


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان