يد الله .. حكاية مجموعة قتالية مصرية اقتحمت سيناء يوم العبور فعادت عام 1974 !
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
وعلى الربابة نغني، ونحكي فيما نحكي، ونزيد من الشِعر أبيات وأبيات وتلك المرة سطر من سلاح الاستطلاع في قصيدة طويلة بدأت بقرار العبور ولم تنتهِ حتى الآن .. رواية خَطَّت سطرها الأول وكتب ولم يستطع مؤلفها أن يكتب خط النهاية، فلا نهاية لمثل هكذا روايات .. أغنية كلما سمعناها طربنا إلى حد السُكر وكأننا نشرب أفخم أنواع النبيذ، لوحة اشترك في رسمها فان جوج وبيكاسو وسيلفادور دالي .. أيام الفَرَج بعد الكَرب، ودموع الفرح بعد دموع الحسرة، وأيامُ تنفس فيها الناس الهواء الحر حتى لو برائحة دم الشهداء بعد أيام اختنقوا فيها من هواء الغبار القادم من سيناء التي كانت مُحتلة بعد أن لوثته أقدام الجيش الإسرائيلي المُحتل .. وكانت الأيام ثقيلة، والحمول جَلل, ولم يكن الأمر سهلًا كي تتحرر الأرض، آلاف الملاحم، وآلاف التفاصيل، كي نرسم لوحة بحجم الشمس، اسمها “نصر أكتوبر”.
ومن ضمن تلك الملاحم، ملحمة لعب دور أبطالها مجموعة عسكرية مكوَّنة من ثلاثة رجال من رجال سلاح الاستطلاع، وكانت المهمة هي أن تدخل تلك المجموعة لأعمق نقطة في سيناء ثم تسلُّق جبل يكشف أمامه مطار حربي من مطارات الجيش الإسرائيلي المحتل، ومجموعة من الكتائب وآلاف الدبابات الإسرائيلية، باختصار: هؤلاء الرجال سوف يكونوا هم عين قواتنا المسلحة في أهم نقطة قوة للجيش الإسرائيلي المحتل ومهمة المجموعة هي إبلاغ القوات المصرية بمواقع تلك القوات الإسرائيلية لتحديد الأهداف للطيران المصري لضربها .. وكان دخول هؤلاء الرجال عبارة عن فيلم أكشن في حد ذاته، حيث دخلوا في طائرة من ضمن سرب طائرات حربي دخل لتلك النقطة حيث معارك ضارية مع قوات الدفاع الجوي للجيش المُحتل، يقول اللواء نصر سالم وهو قائد المجموعة : ركبنا الطائرة الهيلوكبتر وحولنا 60 طائرة حربية دخلت معارك قوية مع سلاح الجو الإسرائيلي، وكُنا نشاهد – أنا ورجالتي- المعارك وكأننا نشاهد فيلم، حيث نتوقع جميعًا أننا سنصبح شهداء في أي لحظة.
ونزل الرجال من الطائرة، وكان عليهم المشي حوالي 70 كيلومتر على الأقدام في سيناء حيث يأخذون مواقعهم، وكانوا لا يمشون إلا ليلًا حتى لا يكتشفهم العدو، ووصلوا على بُعد كيلو متر واحد على بُعد الجبل المنشود .. وكانت الأزمة الكُبرى عندما اكتشف رجال الاستطلاع أن عليهم أن يخترقوا كتيبة إسرائيلية تحيط الجبل من قاعدته، وبالفعل فتح الرجال ثغرة في السلك الشائك ومروا من خلالهم في عملية استشهادية بلا جدال، وتسلقوا الجبل، واختبئوا خلف صخرة يقول عنها قائدهم : وكأن الله أرسل لنا تلك الصخرة هدية لتكون كالبيت بالنسبة لنا .. وأخرج الرجال الأجهزة وجهزوا المكان كي يكون نقطة الاتصال مع القيادة المصرية .. ومر الظلام وجاء صباح يوم جديد.
كانت الفريسة الأولى عبارة عدد 111 دبابة إسرائيلي تحوم حول الجبل فالتقطها رجال الاستطلاع الكامنين في الجبل، وعلى الفور كان البلاغ في القيادة .. يصف قائد المجموعة المشهد قائلًا، بعد البلاغ كانت 4 طائرات مصرية حربية من طراز “ميج 21” فوق رؤوس الدبابات وفي ضربة واحدة سحقت كل الدبابات والأسلحة المجاورة لها والمركبات الإسرائيلية التي كانت تستعد لإمداد القوات الإسرائيلية المُحتلة في معاركها على الجبهة.. وتتالت بلاغات مجموعة الاستطلاع، حتى إن الإسرائيلين ارتبكوا من سرعة ودقة سلاح الطيران المصري كلما قاموا بإعداد السلاح الذي سينطلق إلى المعارك الضارية على القناة .. ومن فرحة مجموعة الاستطلاع وهم يشاهدون نتائج البلاغات أمام أعينهم .. حتى إن هناك واحد من الجنود قفز من شدة فرحته أثناء ضربة حاسمة من ضربات الطيران، فجذبه اللواء نصر سالم قائد المجموعة منزلًا إياه إلى مكان الاختباء خلف الصخرة كي لا ينكشف أمر الرجال.
وبعد أن نجح الرجال في مهتهم بعد 20 يوم انتهت بوقف إطلاق النار بين الجيش المصري وجيش المحتل الإسرائيلي وفق مباحثات بقيادةالرئيس السادات، بعد انتهت مهمة الـ 20 التي كانت في الأصل مهمة الـ 6 أيام، حيث أُبلغت مجموعة الاستطلاع أن مهتهم عبارة عن 6 أيام فقط وستستلم مجموعة أخرى منهم نفس الموقع، لكن لصعوبة الوصول لهذا المكان فضلت القيادة بقاء الرجال في أماكنهم، وكان لديهم من الزاد والزّاد ما يكفي الـ 6 أيام فقط، فلكل فرد منهم لديه (لتر ماء، وعلبة عدس، وعلبة فول، وعلبة سردين، وباكو بسكويت بالكمون، وقرص فيتامين). وكان الرجال قد قرروا من اليوم الأول أن يقسموا الأكل والمياة على أكثر من يوم، فيقول قائدهم : كُنا نقسم لتر المياة على أربعة وخمسة أيام، فلكل واحد من الرجال شَربة ماء واحدة في اليوم للبقاء قدر الإمكان على قيد الحياة.
ووصلت الأوامر للمجموعة للعودة، وكانت رحلة إذا كتبها أديب يف رواية للخيال العلمي لن يصدقه كثير من القُراء .. حيث أن أول بئر ماء على بُعد 75 كيلو متر، في واقع شديد الصعوبة حيث لا طعام ولا ماء تقريبًا، وكان الرجال يترجلون لثلاثة ليالٍ للوصول إلى البئر .. ويتكلمون بالإشارة حيث لا طاقة للكلام بالصوت، ويستخدون الأشارات المكتوبة للقيادة لأنه لا طاقة أبدًا لأحدهم بالكلام، فهم يستخدمون الماء كقطرات فقط للبقاء على قيد الحياة، ويحكي قائدهم مشهد شديد الصعوبة، حيث اتفقوا إذا واجهوا أحدًا من الجيش الإسرائيلي وقرر أسرهم أنهم سوف ينفذوا عملية استشهادية على الفور لكن لا طاقة لأحدهم لضرب النار، فقرروا لحظة المواجهة أن يشدوا (تيلة) قنبلة من القنابل بكل قوتهم لأن واحد فقط في مثل هكذا حالة من الطاقة لن يستطيع شد الفتيل منفردًا ويفجروا أنفسهم في أيًا من سيقابلهم.
وعندما وصلوا للبئر كانت المياة لا تصلح للشرب، وضاع الرجال في مجاهل الصحراء، ومرت عليهم الأيام والليالِ في صراع البقاء على قيد الحياة، وقبل الموت المحققلا وفي ساعتهم الأخيرة نسقت القيادة بينهم وبين مجموعة مصرية أخرى ضائعة في الصحراء هي الأخرى وانضمت المجموعات مع بعضها للعودة، ويقول قائدهم، كانت يد الله رحيمة بنا حيث صدفنا مزرعة للبطيخ في سيناء وكانت بالنسبة لنا كنز حيث الطعام والماء .. وبدأت رحلة أخرى للعودة مترجلين وسط مهمات عديدة من القيادة، لتصل مدة بقاء المجموعة في سيناء حوالي 6 أشهر، لنصل للضفة الغربية في شهر مارس 1974 !
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال