يرويها زكوة .. الحلقة الخامسة
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد
جلست أراقبه وهو يفرد بالمكواة ياقة قميصي كان يتمايل على نغمات المقدمة الموسيقية لأغنية تأتي من راديو موضوع على رف بالقرب من رأسه شردت و أنا أسمع صوت عبد الحليم حافظ يحنو علي بصوته.
“ابعد الخوف عن رموشك “
“أوعى شئ في الكون يحوشك “
“غني … أرقص … إجري”
شعرت أن عبدالحليم يغني لي وحدي و كأنه يرسل لي تحياته قبل أن أوقع عقد أول بطولة مسرحية ، تعجبت من ذلك التطابق بيننا في الميلاد بالقرب من الزقازيق و في اليتم المبكر ، حملت القميص من الدكان إلى الغرفة عبر شارعين و حارة و سلالم لم أفكر في إحصاء عددها و أنا أتجاهل التفكير في أي سوء قد يعكر بياض لونه في تلك الرحلة القصيرة فأتعطل عن موعدي ، تذكرت حليم و أنا أهيئ نفسي للنزول ، شغلني ذلك التساؤل : هل يكتمل التشابه و أحصل في عالم التمثيل على مثل نجاحه في مشواره مع الغناء.
مضيت في طريقي إلى مسرح البالون بظهيرة نهار دافئ من شتاء عام ١٩٦٩ ، كان قد مر على إنتظامي في الدراسة بالمعهد أقل من شهرين ، وما لا يزيد عن شهورٍ أربعة على وجودي بالقاهرة ، مدة زمنية لا تتناسب مع سنوات الإخفاق الطويلة التي حُكيت في السير الذاتية لأهل الفن المكافحين عبر الزمن ، من أكون لأحصل على هذه الفرصة بتلك السرعة المجنونة ، خفق قلبي و أنا أفكر .
استقبلني صلاح جاهين مصادفةً في وسط الفناء الموصل إلى المبنى مُرحباً و قادني إلى الداخل ، تجولنا بين قطع الديكور التي تُبنى بأيدي مهندس الديكور و مساعديه ، نظرت إلى مقدمة خشبة المسرح و رأيتني أقف في منتصف صف من ممثلين آخرين تتشابك آيادينا و ننحني أمام الجمهور ، حركت رأسي يميناً ناحية الكواليس فلمحت دكتور أحمد عبد الحليم يقف مع مستر أرفين لايستر منهمكين في حوار متواصل فتذكرت لعبة صد رد مع إبن خالي سمير عندما كنا نتبادل ركل الكرة في خط مستقيم و نحن نقف متقابلين دون توقف حتى يفشل أحدنا في توقيف الكرة أو في إرجاعها فيخسر ، كانت اللمعة في عيونهما و حماسهما في تبادل الحديث يشبه شغفنا وقتها بالكرة المطاطية ، رأيت أستاذ سعيد أبو بكر الممثل الكوميدي المعروف فإبتسمت معتقداً مزاملتي له في العرض المنتظر لكنه كان يبدو مثل تلك الشخصيات فائقة الأهمية الذين نعرفهم من الجريدة السينمائية المرئية حيث كان يسير بين أشخاص لم أتعرف على أي منهم يُظهرون له إحتراماً وافراً و إحترت في تفسير ذلك المشهد.
أشار لي مستر أرفين لايستر بالتحية فجذبت حركة يده إنتباه دكتور أحمد فإتجه ببصره ناحيتي و إبتسم لي ، تأبطني صلاح جاهين مسافة قصيرة إلي مكانهما ، تصافحنا ثم إنضم إلينا أستاذ سعيد أبو بكر.
– أحمد زكي بطل العرض ( قال صلاح جاهين )
رفع نظارته من أمام عينيه إلى جبهته و تفحصني بعينيه العاريتين ثم وجه سبابته ليؤكد إنه يقصدني بكلامه .
– ده ؟ ( استنكر سعيد أبو بكر )
كتمت غضبي بينما أمسك صلاح جاهين يده و سارا يتبعهما دكتور أحمد و بقى مستر أرفين يراقب .
– إيه البواخة دي يا سعيد كسرت بخاطر الواد
– ده وقت خواطر يا صلاح ! جايبين لي عيل و عايزني أتصرف بعقل
– عيل إيه ده ولد موهوب جداً
– يا أحمد على عيني و راسي موهبته لكن بالمنطق شاب صغير زي ده يقف يحكي عن تاريخ القاهرة في ألف سنة إزاي !!! إنتوا عايزين تجنوني ؟.
قفزت من أعلى الخشبة إلى الصالة ، تخطيت الممر إلى بهو المبنى أوقفت واحداً ممن كانوا يحيطون بسعيد أبو بكر منذ قليل و سألته عنه فعرفت أنه لم يتواجد ليمثل في المسرحية كما إعتقدت لكنه موجود بصفته مديرا للفرقة الغنائية الإستعراضية التي ستنتج العرض ، تخطيت الباب إلى الفناء الخارجي و قبل وصولي إلى البوابة سمعت صلاح يناديني لاهثاً فلم أقف ، كنت أخشى أن تفضحني دموعي التي إجتهدت لأحبسها .
– يا واد بطل رخامة هو أنا بتاع جري .. هاتقف و لا أرمي نفسي أتدحرج عليك و أدوسك ؟
إستدرت و عدت في إتجاهه .
– بص يا أحمد إنت خسرت دور مهم في مسرحية كبيرة بس كسبت صديق .. تقبلني صديق ليك ؟
إقرأ أيضًا….التبليغ والدعوة من الأعمال الفنية لشوارع القاهرة.. بلطجة باسم الله
لم أختبر مثل ذلك الشعور من قبل و أنا أنظر في عينيه وقتها ، كان جسده المستدير و هو يلهث من الركض يشبه في تشكيله قلبٌ كبير ينبض ، عجزت عن الرد لكن ملامحي قالت كل شيئ ، كانت عيناي تشكره بإمتنان على حنوه و رقته ، فلا شيئ يجبره بعظمة مكانته على العناية بإحساس طالب صغير لا يعرفه غير زملائه و بعض أساتذته ، مدت يدي فجذبني إلى حضنه ثم طلب مني العودة إلى المسرح فلم أستجب .
– عايزنا نبقى إصحاب إسمع نصيحتي … في دور يناسبك رشحك له سعيد أبو بكر… إقبله
– ما ينفعش يا عم صلاح ….. طب أقول للناس إيه بعد لما قلبت الدنيا إمبارح غنا و رقص على إني بقيت بطل المسرحية
طالبني صلاح جاهين بإستدعاء العقل للتفكير في قبول العمل بالمسرحية رغم ما حدث حتى أحصل على خبرات مختلفة ليس فقط بالتمثيل أمام جمهور عريض و متنوع لكن كذلك للتعرف على طبيعة التعامل مع المسرح الحكومي و ذكرني بأنني سأنال أجراً كذلك مقابل العمل فإقتنعت .
– متزعلش مني يابني أنا في حوسة و ربنا يعلم ( قال سعيد أبو بكر )
تفهمت كل مبرراته و قعت عقد التمثيل في المسرحية و تعرفت على مواعيد البروفات ثم سألني صلاح جاهين إن كنت أحب الترمس ، أجبته بنعم فخرجنا للتمشية على كورنيش النيل .
الكاتب
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد