همتك نعدل الكفة
1٬083   مشاهدة  

يوميات سورية في مصر .. المكان ده ريحته حلوة

يوميات سورية في مصر .. المكان ده ريحته حلوة


اليوم الأول:  البدء في إجراءات العودة

لماذا قررت ترك تركيا والعودة إلى مصر ؟

 

ثمة مقولة مصرية عن الأماكن : ” المكان ده ريحته حلوة” .

والرائحة روح المكان ومن ثم الإنسان..

نعم للأماكن رائحتها وكما تحدثت عن الذاكرة الشمّية في المقال السابق سأتحدث اليوم عن روح الأماكن أو رائحتها.

في تركيا.. وعلى مدار الخمس سنوات التي مكثت بها مع عائلتي أسند ظهري إليهم، فمهما كبرنا وكنا أقوياء نحتاج إلى أن نسند ظهورنا أحياناً.

أما أصدقائي السوريين فكنا على الرغم من اختلاف منشأنا وبيئتنا متفقين على تجاوز كل الخلافات لنعمل سوياً ونكون سنداً لبعضنا البعض.

كنا نعمل في كل مايخصّ اللاجئين السوريين ” ولا استنثني نفسي من ذلك التعبير فأنا أيضاً لاجئة”

لاجئة في بلد لم اختره .. ففي الحرب لاتملك رفاهية الاختيار . وجلّ ما تسعى إليه محاولة البحث عن الأمان ولو مؤقتاً.

العمل مع اللاجئين أمر ليس بالسهل إطلاقاً وخصوصاً إن كنت تعاني معاناتهم وتشعر بآلامهم

قد يكون حظي أحسن من غيري بكثير لكني لا أزال أنتمي إلى ذلك البيت السوري الكبير الذي فقد شيئاً.

فلا يوجد قلب سوري خالٍ من الغصة. كما لا يوجد بيت سوري لا يعاني من الفقد ..

 

يقال إن ” فاقد الشيء لا يعطيه ” أظنها مقولة خاطئة . لأن فاقد الشيء يدرك قيمته جيداً ويسعى في كل لحظة إلى الوصول إليه والبحث عنه في الآخرين وتقديمه لهم ليرى فرحته المنقوصة على وجوههم.

وأحياناً كثيرة يكون مجبرّاً على إعطاء ما لايملك.. ولا تسألني كيف؟ فالحرب تجعلك إما تعطي أو تأخذ فحسب.

ومن هنا بدأت رحلة العمل مع اللاجئين.. وبما أني أمقت الحرب والسياسة ولا أفهم إلا لغة الفن تلك التي لاتحتاج إلى ترجمة، حاولت أن أقدم الدعم النفسي للاجئين عن طريق الفن.

العمل والصداقة في تركيا شيء واحد، فتسارع إيقاع اللجوء وآثار الحرب جعلتنا كلنا في كفة ميزان واحدة

كنا نحاول تقديم أقل ما يمكن تقديمه للطبطبة على قلوبنا المتعبة وظهورهنا المنكسرة.

وعلى الرغم من ذلك الايقاع الذي يكاد ينسيك همومك مقارنة بهموم الآخرين وقد ينسيك حلمك أيضاً لأن صوت الواقع أعلى وأكثر ضجة من همهمة الأحلام.

كنت دائماً أفتقد ” رائحة المكان ” فعلى الرغم من شعوري بأهمية ما أقدمه واحساسي بالمسؤولية تجاه أبناء بلدي  كان ثمة شيء ناقص .. لم أدرك ماهيته بداية. كنت غرقانة في مشاكلنا كسوريين و الشتات لا يهبك رفاهية التركيز أو معرفة ما تحب وما تكره.

ماهي احتياجاتك النفسية ؟ ماذا تريد؟ ماذا تفعل الآن؟ فمن أبسط حقوق المرء أن يعرف من هو؟ وماذا يريد؟ ويختار أين يعيش.  وما يأكل أو يشرب أو حتى يصادق أو يحبّ.

في تركيا كان كل شيء منظماً ونظيفاً وسهلاً بشكل مبالغ به.

الحياة سهلة والتعامل بسيط ومريح ..لكن ثمة شيء ناقص..

شعوري المتواصل بذلك الشيء الناقص يجعلني ابتسم نصف ابتسامة . أحبّ نصف حبّ

احذر أن انساق في عواطفي لأقصاها. أخاف من الغد على الرغم من وجود كل ما يطمئن الغد

لكني أكره ذاك الغد لأني لا أعرف من أنا وأي قناع سأرتدي !!

نعم .. في تركيا تضطر كثيراً لارتداء الأقنعة لأنك فاقد للشيء ومجبر على إعطائه. في تركيا لابد من القناع لتستمر الحياة، لابد أن تنسى ألمك حتى تشعر بآلام الآخرين وتقدر على مساعدتهم.

هذه هي الحرب يا صديقي لارفاهية لديك لتعبّر عن نفسك ومزاجك! فحين ترى مصائب غيرك ستهوّن عليك مصيبتك وستحاول أن تخفي ألمك وترتدي قناع الابتسامة والطمأنينة أحياناً ،حتى تطبطب على من يحتاجك.

ولكن.. ومع مرور الوقت، ستختفتي ملامحك وسيأتي اليوم الذي تقف به أمام المرآة ولا تتعرّف على نفسك ..

حقاً أن إستنزاف الروح يطمس ملامح الوجه ولمعة العين.. وأنا أحب لمعة العين فهي روح الإنسان.

لذا قررت العودة إلى مصر فهي الوحيدة القادرة على نزع كل الأقنعة عن وجهي.

جاء اليوم الذي قلت به : يكفي! لا أستطيع أن أقدم أكثر.. رصيدي خلص.

إقرأ أيضا
جداريات

تذكرت مقولة معالجي النفسي مرة أخرى،  ” وهنا دعني ألفت انتباهك عزيزي القارئ لضرورة أن يكون لكل سوري معالجاً نفسياً وخصوصاً من يعمل في حقل الدعم النفسي”  تذكرت حين قال لي : الداعم يحتاج إلى الدعم أحياناً ولن ترتاحي حتى تعودي إلى مصر.

وفي الوقت الذي كان به المصري يسعى إلى فرص عمل بالخارج ويرغب في مغادرة مصر. كنت أرغب بالعودة إليها ومتابعة ما تبقى لي من حياة في تلك البلد ذات الرائحة الحلوة.

أجل بهية ” ريحتها حلوة ” … لديها رائحة كنت أفتقدها،  أما ذلك الشيء الناقص الذي كنت أسعى إليه

فوجدته في مصر.

لا خوف عندي من الموت على أرضها، بل على العكس تماماً سأكون مطمئنة إني غافية في أرض طيبة تغمرني بالدفء والأمان.

كنت أعرف في قرارة نفسي أني لن أعود إلى سوريا وربما لن يكتب لي أن أراها ثانية..

قررت العودة إلى مصر فعلاً.. وبدأت رحلة العذاب في نيل التأشيرة التي كان الحصول عليها بمثابة حلم بعيد المنال.

ربما الإصرار على ملاحقة الحلم سيجعله حقيقة في يوم ما. لكن لا يوجد حلم تستطيع تحقيقه بمفردك لولا مساعدة الآخرين..

وهذا ما حدث بالفعل..  وليس بسبب قوة رغبتي بالعودة إلى مصر فحسب. وإنما ” بجدعنة ” المصريين التي لن تتغير ما أورق العود .

لا أستطيع الكلام عن “جدعنة المصريين” في مقال أو اثنين أو حتى عشرة ..! فهي تحتاج مني إلى مجلدات

لهفة قلوبهم ومحبتهم الفطرية تجعلك تفتقد الكلام وتصمت أمام جمالهم.

سأعيرك عين قلبي عزيزي القارئ بما سأكتب لاحقاً فـي ” تأشيرة لقلبي ”  لتجعلك تشعر ما شعرت به أمام ” جدعنة ” من لا يعرفني..

أما مَن عرفني فلا كلمات تعطيه حقه وحياة واحدة لا تكفي لرد الدين له.

 اقرأ أيضا

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
27
أحزنني
4
أعجبني
6
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان