يوميات طالب الكلية الحربية (٩) .. كنت على وشك الطيران في السماء لكني سقطت
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
انتهينا في الجزء السابق من سلسلة يوميات طالب الكلية الحربية (٨) ..النوم على الجبال داخل الهايك إلى إلى مرحلة المظلات، وكم هي أزمة وجودية أن تنهي فرقة الصاعقة ثم تنتقل إلى المظلات – نصف الدفعة اجتاز فرقة المظلات أولا ثم بدأ الصاعقة لكني كنت من نصفها الأول الذي اجتاز الصاعقة أولا – وتكمن المشكلة أن الطالب الذي لم يتجاوز ١٩ عاما يشعر بعد اجتياز فرقة معلمي الصاعقة الراقية أنه أكبر بكثير من فرقة بسيطة كالمظلات.
كما صاحب انضمامنا لفرقة المظلات في مارس ١٩٩٣ حلول شهر رمضان الكريم فقررنا جميعا أن النوم واجب طويل واعتبرنا عمر الفرقة الذي لا يتجاوز شهر مساحة للراحة والتأمل وأجازة ما بعد الصاعقة في مدرسة المظلات حتى جاء اليوم المنتظر.
يدخل معلم المظلات إلى العنبر صارخا في كل النيام
- قفزتكم بكرة ومتعرفوش شكل المظلة، اللي مش حينزل الطابور مش حخليه ينط بكرة
نهرع جميعا لأرض الطابور متكاسلين لكننا ننوي القفز لعبور الفرقة اللازمة لإنهاء السنة الثانية في الكلية الحربية، يشرح الرجل كلاما كثيرا وكأنه يعيد منهج الفرقة كل خلال ساعتين، يمنعنا الصيام من التركيز، لكنه لم يمنعنا أبدا من القلش حين قال
- وإذا المظلة الرئيسية مفتحتش حتفتح المظلة الثانوية مفتحتش تلمها وترميها يمين لو مفتحتش تلمها وترميها شمال ولو مفتحتش تحطها بين رجليك
فأجبت رغما عني
- وتلطم على خدودك
حلمت طيلة عمري بالطيران، وعندما حلقت سقطت، لكن السقوط لم يكن مؤلما لأنه قدر أعده الله لقدر أخر
ثلاثة أيام كاملة نصعد الطائرات وتعود بنا لشدة هبوب الرياح، صار الأمر مدعاة لسخرية جديدة، صرنا نركب الطائرة ونغني كأننا في رحلة مدرسية بدلا من خوف اليوم الأول حتى اليوم الرابع الذي فتح فيه باب الطائرة وبدأ في المعلم في دفعنا خارجها واحدا بدل الأخر، للأسف كنت الثالث في الطائرة فلم أشاهد الكثير من مساخر مقاومة القفز، تركت نفسي للمعلم فدفعني بقدمه في ظهري لأجد نفسي طائرا في الهواء يتتابع اللونين الأصفر والأزرق بسرعة رهيبة – لون الصحراء ولون السماء – ثم فجأة تنفتح المظلة فتشعر وكأن عمرا جديدا كتب لك، يتوقف الزمن تماما مع شعور بمتعة لا نهائية، أطير في السماء وكأنني ملكت الأرض أشاهد كل شيء وعلى وجهي ابتسامة بعرض لوحة إعلانات.
أتذكر الرائد الشاذلي بطل العالم في القفز الحر الذي – رحمة الله عليه – طلب مني تغيير اسمي في قفزة البرج وهي قفزة مبدئية للتدريب حتى يسمح لي بالقفز، أتذكر والدي ووالدتي، أتذكر جارا لا أتذكره الأن، أتابع كل شيء في صفو عظيم مع صمت تام، لكن فجأة أصطدم بالأرض.
نسيت تماما تعليمات معلم المظلات بثني رجلي في وضع “سوستة” لتجنب صدمة القفز – الدرس ده محضرتوش كنت مزوغ وحكولي بعدها – ، أسقط متألما، أفلت مظلتي من كليبساتها ثم أعاود التقاطها حتى لا تطير بعيدا.
ملحوظة : المظلة هي البراشوت
يشغلني الألم في ظهري فأسقط حتى تصل السيارة “البيجاسو” لحملي إلى مكان التجمع.
من شر حاسد إذا حسد
كان لدينا في الدفعة زميل سوبر باور، يستطيع عندما يقرر أن يحسد شيئا بعينه أن يستجيب، أوقف القطار التوربيني عندما تأخر أتوبيس الكلية عن أيصال أهل الأسكندرية – وهو منهم – في موعده فقال زافرا بحرقة
- التوربيني ده مبيتأخرش أبدا
تأخر القطار ساعة كاملة وركبه الجميع
وفي مدرسة الصاعقة دخل مساعد دفعتنا في اليوم الأول ليدعونا إلى ميس الطلبة للعشاء فأشاد بالأفرول الجديد الذي يرتديه، رفع الرجل يده لتشق سترة الأفرول .
أما أنا ولحظي العاثر كنت في فراش بجواره فأشتريت يوما ما برطمانا من المربى للعشاء فسألني ناظرا للبرطمان
- حلوة يا أسامة
- تاكل يا فلان
- لا ممكن أدوق
- لا يا فلان أنا جايب البرطمان علشان أنت تاكل وأنا أدوق
وأثناء اجتيازنا بوابة مدرسة المظلات للمرة الأولى صرخ في حبور
- إيه البوابة الجامدة دي؟
انهارت البوابة على السيارة التالية لكن أحد لم يصب والحمدلله
طرت بالفعل لكني سقطت، لم أدرك هل أنا موجوع لفشلي في الطيران الحلم الذي حلمته طيلة عمري أم هو الألم في ظهري من تجاهل التعليمات
المدهش أن تلك القفزة الخاطئة أو الطيران سيتسبب في خروجي من القوات المسلحة بعدها بحوالي ١٢ عاما وسأعاني بسببها طبيا لسنوات طويلة.
نحتفل بالقفزة، ثم نحتفل بالعيد ونعود أخيرا إلى الكلية الحربية من جديد، لكن هذه المرة في السنة الثالثة، حائزون على فرقة الصاعقة الراقية وفرقة المظلات، يحترمنا الجميع، لكن هل يسمح هذا الاحترام بالإضراب عن الطعام
هذا ما حدث في ليلة ربيعية مدهشة فكسرت الكلية الحربية مواعيد نومها للمرة الأولى بسبب العبدلله
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال