همتك نعدل الكفة
150   مشاهدة  

يوم في التأمينات أيام التسعينات

التأمينات في التسعينات
  • شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



في بداية عشريناتي في فترة التسعينات وأنا بفلفص من تحت أيد مشايخ السلفية وأنصار السُنة عرفت سكة ممرات وسط البلد، حيث القهاوي أم مشاريب رخيصة وزباين متنوعين جدًا؛ مصريين وأجانب من جنسيات مختلفة.. خِرتية وسماسرة عملة.. ولاد وبنات.. فنانيين وكُتاب.. صحفيين ومحاميين، خليط يجمعه ممرات وسط البلد وإن كلهم صيع؛ صياعة حلوة.. صياعة ولاد البلد.

خليط يمكن وصفه بحلقة من حلقات تكوين النخبة المثقفة في البلد خلال النُص التاني من التسعينات. قصاد ده أمي بدءت تتخانق معايا كتير وتطردني من البيت.. أو بمعنى أدق ماتفتحليش الباب لما أروح متأخر، الأمر اللي طبعًا كان بيحصل كتير.

بين المخمضة والأمل

أشتغلت أياميها شغلانات كتير عجيبة عشان أوفر مصاريفي، ولما مالقيش شغل كنت أسرق فلوس من البيت، في نفس الوقت التليفزيون عمل حملة للتوعية من الإدمان، من ضمنها أكتر إعلان كرهته في حياتي؛ بيقولوا فيه علامات المدمن عشان الأسر تاخد بالها من عيالها وكده، ومن ضمنها السهر كتير والصحيان متأخر وإختفاء أشياء من المنزل، فكانت ماما وأخواتي كل ما يتقال العلامتين دول يبصولي.

وفي وسط ده كل حاولت برضك أرضي أمي وأشتغل شغلانة على مزاجها، خصوصًا لما أخيرًا حد من قرايبها جابلي شغل في “البترول”، فكانت متحمسة جدًا ومكبرة الموضوع رغم إن ماكنش فيه أي معلومة مفيدة عن الشغل ده يطلع إيه، كل هدفها كان إنها تتجاوز خازوق خالي السلفي اللي باعها وماجبليش شغل في “معمل التكرير” زي ما كانت بتقول دايمًا؛ وعلى أساس هذا الوعد الخيالي حرمتني من بوابة الثانوي الخاص.

شُقير هي الحل

موت بابا قبل ما أخلص الدبلوم بشهور، قفل قصادي خرم إبرة كنت مراهن إني أعرف أعدي منه لعالم الفن، كمان صحاب بابا -اللي رضيوا يقابلوني منهم- كلهم كانوا بيعزموا عليا بفلوس.. وبعضهم بيعرض شهرية ثابتة، وماحدش منهم عرض اللي كنت فعلًا محتاجه؛ فرصة شُغل.

الحالة دي خلتني ضعفت أكتر قصاد ضغطت ماما عليا بكلامها؛ كلام كان خليط من المعايرة والشماتة عن أصحاب بابا “الأندال”، على حد تعبيرها، اللي باعوا إبن صاحبهم؛ في إستماتة منها على شيطنة عالم الفن.. والأهم الغلوشة على بيعة أخوها ليها.

فكنت أحيانًا باعمل محاولات لكسب رضاها أو الخلاص من زنها أو الهروب من الفلس؛ في حالة من دول ماما بلغتني إن مطلوب مني أحْضَّر ورقي وأسافر “راس شُقير” أشتغل أي حاجة زي كل العيال ما بتعمل.

وأي سؤال تدقيقي عن أي ملحوظة تم مواجهته باتهامي بالدَلَع وإني عايز أشتغل مدير وعايز أجري ورا المسرح وأخيب خيبة أبويا… إلخ.

وافقت ع الشغلانة من غير ما أعرف هي إيه، وبدءت رحلة تجهيز الورق والاستعداد للسفر إلى “راس شقير” من غير ما يكون عندي معلومة واحدة عن أي حاجة، هدفي كان إني أخلص من البطالة والزَّن.. والأمل إني يمكن أعرف أخد نفس اللفة اللي بابا سبق وأخدها قبل كده، والأهم إني مُستقبَلًا مابقاش اللي رفض “البترول” عشان “أوهام التمثيل”، فللأمهات المُحبطات غُدّة مهمتها تخزين أسباب للنكد والتقطيم لعشرات السنين.

التأمينات في التسعينات
الفنانة عبلة كامل في شخصية أم

ظهور ذو الإصبع

الأوراق المطلوبة تبدو بسيطة وسهلة:

–         المؤهل (شهادة الدبلوم)

–         كعب عمل (يستخرج مجانًا من مكتب العمل جنب البيت)

–         بطاقة تأمينية (تستخرج من مكتب التأمينات قصاد جراج العتبة)

كعب العمل خِلِص في دقايق ومن غير ما أدفع شِلِن، بعدها طِلِعْت على مبنى التأمينات القاطن في وش جراچ العتبة، “الموظف المختص” طلب شوية أوراق كنت جاهز بيها كلها أصل وصورة: البطاقة “كانت لسه كارتون وبيانتها مكتوبة بخط الأيد” وشهادة الميلاد و شهادة المؤهل.

إستلم الموظف الأوراق وبدء يسألني عن البيانات الموجودة فيها؟!، فمليتها له عادي.. ولا كإن فيه شئ عبثي بيحصل، وهو بمنتهى الدأب بيُنقُر ع الكيبوورد بصباع واحد.

لغاية ما وصلنا لسؤال مفصلي.. أثر في حياتي لحد النهارده.

–         الصنعة؟

–         صنعة إيه؟

–         يعني المهنة

–         بصراحة ماعرفش.. أنا هاشتغل أي حاجة ألاقيها

–         لازم البيانات هنا يتسجل فيها المهنة بالتحديد.. واشتغل هناك زي ما تحب

–         طب هي إيه المهن الموجودة عند حضرتك؟

–         على حسب الفئة أ.. ولا ب.. ولا ج

–         وإيه الفئات دي؟ بدفع عليها فلوس يعني ولا بأختارها إزاي؟

–         مش إختيارية (رديت بيني وبيني: وإيه الجديد).. دي على حسب المؤهل؛ أ.. مؤهل عالي، ب.. مؤهل متوسط، ج. بدون مؤهل.

جَزّْيِت على سناني في شكل إبتسامة قبل ما أرد عليه

–         خلاص.. يبقى أنا ب، أكتب حضرتك أي حاجة متاحة في الفئة ب

–         ماينفعش أي حاجة وخلاص.. لازم مهنتك بتاعت الدبلوم

التأمينات في التسعينات
كيفين هارت

يا منجي الوحش م الجحش

سَبّيْت في بالي كل حاجة ينفع تتسب للبديهيات واللي مابيعلمهاش للموظفين.. بس رديت بثبات

–         أه.. تقصد القسم أو التخصص، مكتوب عند حضرتك في الشهادة “الكترونيات وكمبيوتر”

بعد ثواني من الكتابة بصباعه الواحد شال عينه من ع الشاشة وبصلي

–         مافيش ألكترونيات وكمبيوتر

–         هو إيه اللي مافيش حضرتك؟؟ ما الشهادة قدامك أهي؟!

–         مافيش في القايمة عندي هنا؛ القسم ده شكله جديد ولسه ماتضافش للقايمة

–         خلاص.. ضيفه أنت يا فاندم

–         ماينفعش.. دي قايمة ثابتة وإحنا بنختار منها

–         طيب إختار أي واحدة من الموجودين في القايمة.. وأنا أصلا هناك هاشتغل أي حاجة

–         ماينفعش.. لازم بيانات الشهادة تبقى مطابقة للأوراق الرسمية

ماعرفش ليه أفتكرت بابا لما كنت أنادي عليه وأنا عيل؛ بنبرة اللي عايز يطلب حاجة أو يسأل سؤال، فقبل ما يرد يقول: “يا مُنجي الوحش مِ الجحش يا رب”.

نَّفَضْت لذكرياتي الأُسَريَة وريحة البلكونة لعد رشة الطراوة في العصاري اللي هدت أعصابي شوية.. وكملت مشوار العبث

–         سيبك من الدبلوم.. طلعهالي ج

–         معقولة.. هتتنازل عن مؤهلك

–         مجراش.. ده دبلوم مش دكتوراة.. ويمين شمال مش هشتغل بيه أساسا

–         خد بالك.. مش هينفع بعد كده تقول أنا معايا دبلوم وعايز أرفع الفئة

–         مش عايز ومش هاعوز؛ ولو أنت عايز أمضيلك تعهد أو إقرار بالكلام ده.. أنا موافق

ظهر على ملامح الراجل تعاطف وآسى على حالي ورجع ينَقَر ع الكيبوورد بصباعه الأثير، عرض عليا كام مهنة إختارت منهم “عامل هدد”، وكنت متصور إن الحدوتة دي خلصت وهستلم أم البطاقة التأمينية دي وأرَوَّح.. لكنه طلب مني أطلع على كورنيش أبو الفدا في الزمالك أعمل إختبار قدرات وأرجعله بالنتيجة.

نزلت من عنده نطيت في ميني باص 48 حيث الطريق إلى أبو الفدا وإختبار القدرات المُنتظَر، دور سحري في مبنى إداري ضخم.. قابلت فيه رجالة كتير كلهم جايين المكان ده يعملوا نفس الإختبار، أنجزت الإختبار الروتيني وأخدت منهم ورقة معتمدة إني عبقري هدد ومشيت.

التأمينات في التسعينات
مني باص تسعيناتي

ذو الإصبع يضرب من جديد

أخدت طابور التأمينات تاني من ع السلالم لحد مكتب ذو الصباع السحري، إستلم الشهادة وسجل بياناتها ثم طلب مني بعادية -شككتني في نفسي- إني أجيب شهادة محو أمية. منعت مناخيري من الشخر بأعجوبة وحاولت أفكره إننا دافنين الدبلوم سوا، فأكد لي بروتينية واصلة للنخاع إن الشهادة دي شرط أساسي لاستخراج البطاقة التأمينية فئة ج.. زيها زي اختبار القدرات.

هكذا لقيت نفسي جوه مبنى متهالك في عابدين؛ قاعد أمتحن قراية وكتابة، أنا نفس ذات المواطن اللي كنت بَزَوغ من المدرسة وأروح “مكتبة البارودي” في العباسية أو أي سيما في شارع الجيش، “سنيماهات درجة تالتة” بتعرض أربع أفلام فيهم إتنين أجنبي؛ وقدرتي على قراية الترجمة كانت هي المدخل المعتمد لأي زبون بيدور على حد يقعد جنبه على أمل يوافق إنهم يلعبوا في بعض.

بعد شوية أسئلة ساذجة أخيرًا بقى معايا ورق رسمي يفيد إني أجيد القراية والكتابة، خدت الورقة وجري على أبو إصبع.

التأمينات في التسعينات
اللمبي في الامتحان

القشة وضهر البعير

إستلم الورقة وسجل بياناتها وثبتها في ملفي ببُطؤه المعهود، ثم لم الورق كله وقام يختمه من مكتب تاني، دقايق ورجع على سِحنِته إنطباع ونظرات غير مُبشرة بالمرة.

–         مش هينفع تطلع البطاقة

إقرأ أيضا
ثورات

طبعًا مؤشرات الشخر وسب الدين قَفِلت العداد.. وبقيت مش عارف أحوش لساني ولا مناخيري، فقُلت ألهيهم في أسئلة أحاول بيها أمنطق السيكوانس ده من حياتي.

–         ليه؟.. ما أنا عملت إختبار القدرات وامتحنت محو أمية وكله تمام.. ناقص إيه تاني

–         مافيش حاجة ناقصة.. بس عشان أنت معاك دبلوم فالمفروض تطلعها فئة ب

–         ما انت اللي قلت مافيش ألكترونيات وكمبيوتر.. وماينفعش تكتب حاجة غيرها

–         أه

–         وقولنا خلاص أنا متنازل عن الدبلوم مش عايزه وتعملهالي بدون مؤهل

شاور ع الملف اللي في أيدي وهو بيقول

–         بس ما أنت أهو معاك دبلوم

بأخر شوية برود وتمالك أعصاب عندي سحبت شهادة الدبلوم من الملف وقطعتها

–         خلاص.. ماعدش معايا دبلوم، إتفضل طلعها ج

تراجع الراجل بتوتر وخوف

–         إيه يا ابني اللي أنت بتعمله ده؟!

–         مافيش دبلوم.. أنا ماكنتش عايزه أصلًا، ومعاك محو الأمية وإختبار القدرات

مد إيده بصورة البطاقة وهو بيقول

–         ما برضه مكتوب في بطاقتك “حاصل على دبلوم”

YouTube player

هنا طار أخر برج في النافوخ بتاع الأنا.. وفقدت السيطرة تمامًا، نتشت صورة البطاقة من أيده وكبشت بطاقتي من جيبي وجعلتهم فشر عصافير الجنة

–         وأدي صورة البطاقة.. وأدي البطاقة نفسها.. وأدي أم الهدوم

المقطع الأخير أتقال وأنا بارمي قميصي في وشه وبقيت ماسورة شتيمة مكسورة خلال طلوعي على المكتب وأنا بفُك البنطلون.

أثر الفراشة

عم سيد سيف واحد من كُبرات المنطقة، في عصر ما قبل تجارة البرفانات، الراجل مشكورًا جالي القسم وكلم الظابط أني مش شقي ولا ليا في جو الخناقات والبلطجة؛ ما كان له عظيم الأثر إني أخد فرصة أحكي للظابط حكايتي.

الراجل لما سمعني عذرني واستخدم نفوذه في إجبار الموظف، اللي أكد كل كلامي، على التنازل عن أي بلاغ ضدي.. كمان ساعدني أطلع بطاقة جديدة في نفس اليوم، لكن اللي بره نفوذه هو استخراج بدل فاقد أو تالف لشهادة الدبلوم.

مشهد شديد العبثية سايب آثار لسه بعضها مأثر في حياتي لحد النهارده ومالهوش حل، زي أني كل ما أحتاج أقدم أوراقي لأي جهة لازم أروح المنطقة التعليمية أستخرج بيان نجاح “مُوَجْه”؛ “بيان نجاح” يعني ورقة رسمية تفيد بنجاحي وتضم درجاتي.. أما “مُوَجْه” فدي معناها إن مش من حقي أستخدم المستخرج نفسه في أي مكان تاني، ولو إحتاجت الشهادة مرة تانية لازم أعيد المشوار مرة تانية.

لأني من حوالي عشرين سنة وأكتر فقدت أعصابي على موظف بيطبق لوايح عبثية، في موقف جنوني لولا تدخل عم سيد سيف ووجود ظابط رحيم إ حتواني كان زماني ضيف في خلف الأسوار.

التأمينات في التسعينات
صورة من حلقات SNL بالعربي

 

 

الكاتب

  • التسعينات رامي يحيى

    شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
2
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
2
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان