همتك نعدل الكفة
509   مشاهدة  

35 مليون مرض.. حكاية مصرف ينهش صحة المصريين باسم “بحر البقر”

بحر البقر


سئمت من الكلمات التي تسمعها من جدتك أو جدك أو حتى والديك بأن الزمن لم يعد به “خير زمان”، وكعادتك وعادة الملايين غيرك تتساءل عن سبب تلك الأحاديث، وغالبًا ما تُعللها بأمرٍ من اثنين؛ إما “نوستالجيا” الزمن الجميل، أو فخر العاجز لأُناسٍ لم يعُد لديهم ما يفخرون به سوى الماضي، لكن قبل هذا وذاك دعني أقُص عليك حكايتي والتي حتمًا ستطرح أمامك سببًا جديدًا وتترك فيك جُرحًا غائرًا، لو كنت تشعر!.

عادةً ما يُعرف الشيء، أي شيء، بصفته الأبرز التي تميزه عن غيره، لكنني أُعرف بين جيراني هُنا برائحتي المُقززة وسُمعتي التي تقشعر لها الأبدان، فالبعض يُطلق عليَّ لقب “الغول”، والبعض الآخر يذكرني بالاسم الذي أطلقوه عليَّ ويعرفني به الجميع منذ الحادث الذي وقع وقت حفر قنواتي الأولى قبل قرنٍ وخمسة أعوامٍ من الزمان، أذكر وقتها جيدًا كنا في نهاية العام الرابع عشر من القرن الماضي، وكان الجميع مُنهمكًا في حفر مصرفي هذا لأجل الري الزراعي، لكن أحد رعاة الأبقار اقترب هو وقطيعه من مياهي وغافلته الأبقار لتسقط كلها دُفعةً واحدة غارقةً في جوفي، لأحمل على جبيني إثم الحادث وكأنني الجاني، ومن وقتها يُطلق عليَّ الجميع مصرف “بحر البقر”.

 

سبعة وستون عامًا كانت مُجمل التاريخ الجيد والوصف الطيب ليَّ قبل صدور قرار الحكومة في العام الحادي والسبعين من القرن العشرين بتحويل دفة الأمور التاريخ بـ”جرة قلم”؛ إذ لم يعجبهم آنذاك، كعادة الحكومات “البائسة” أن يظل حالي على ما هو عليه دون أن تمتد أياديهم لتعبث بمُقدراتي وحيوات الملايين من بعدي، فجعلوني محط الصرف الصحي للقاهرة الكبرى تختلط المياه الجارية في شراييني بمخلفات أهل العاصمة وضواحيها وتعود إليهم وغيرهم من جديد بعدما تتشبعها الخضروات والفاكهة المزروعة بالأراضي الموجودة على ضفافي المُمتدة في ست محافظات.

بحر البقر
مياه المصرف وقت الري

تحملت وتحمل الناس آثار ما حدث تبعًا للمقولة الشائعة “معدة المصريين تهضم الزلط”، والتي تُقال عادةً كلما حضر الأمر أخطاء في ترويج سلع أو أغذية أو حتى مُبيدات مُسرطنة وغيرها من تلك التي هدمت وتهدم صحة ملايين المصريين، فمنهم من لقي حتفه ومنهم من ينتظر، لكن الأمور زادت سوءً على سوء يا عزيزي؛ إذ جار أهل مصر على أرضها الزراعية وبنوا المصانع بدلًا من “الغيطان” لأُفاجأ بين عشيةٍ وضُحاها بعشرات المصانع ومئات المصارف المُمتدة منها إلى مياهي تصُب فيها مخلفاتها الصناعية والكيميائية لتزيد من أمراض المصريين وتُدخل عليها أمراض أخرى جديدة لم نكُن نعرف بها أو تعرفنا.

بحر البقر
مصرف بحر البقر

على مقربةٍ من موقع الحادثة التي كانت سببًا في تسميتي بمدينة الصالحية الجديدة الواقعة بأقصى شمال محافظة الشرقية، ووصولًا إلى كل النقاط التي تصلها مياهي، يعيش الجميع حالة غريبة من التعايش معي بكراهية المُجبر، حتى أن الغالبية العظمة، إن لم يكُن الجميع، يزرعون أراضيهم ويروونها بمياهي وما إن يحصدون الثمار، خضرواتٍ كانت أو فاكهة، إلا ويبيعونها للتُجار بسوق “العبور” دون أن يتذوق أيٍ منهم ولو ثمرةٍ واحدة، قبل أن يتركون المحافظة وما فيها ويذهبون إلى الأسواق البعيدة لشراء فاكهة وخضروات يتيقنون قبل شرائها بأنها لم تروى من مياهي أو يمسسها ضررًا مني.

بحر البقر
سوق الصالحية

ربما كانت حالة الأهالي هنا غريبة وعصية على الفهم، لكنك ستتيقن من كلماتي وحكايتي تلك لو صادفك الحظ ووقعت في يداك ثمرة خضروات أو فاكهة من تلك الأراضي المروية بمياهي، وقتها كل ما عليك فعله أن تُقربها من أنفك بعد فتحها وستعرف ما أقصده وأرمي إليه؛ فالثمرة المروية بمياهي تحتفظ برائحتي “القذرة” وربما طعم الصرف الصحي وخلاصة مخلفات البشر والمصانع كذلك دون غرابةٍ أو استغراب.

حقيقة أخرى أود إخبارك بها يا عزيزي “المصري” الحريص على صحة أولاده وحياته قبلهم، فمياهي تروي ثلث الناتج النهائي من مُحصلة الزراعة في مصر، والتي يقتات عليها أكثر من مئة مليون غيرك، وربما أمكنك التأكد من ذلك بسؤال النائب رائف تمراز، وكيل لجنة الزراعة بمجلس النواب الموقر، والذي أخبرني صراحةً بأن هناك “مِنحة” تُقدر قيمتها بنحو خمسة وأربعين مليون يورو نجحت الحكومة الموقرة في توفيرها كـ”ميزانية” لإصلاح حالي، وذلك عن طريق إقامة محطات مُعالجة تمتد بطولي الذي يتخطى مئه وتسعين كيلو مترًا، تبدأ من جنوب القاهرة مرورًا بمحافظات “القليوبية، والشرقية، والإسماعيلية، والدقهلية”، وتنتهي بأن يوضع ما بداخلي في بحيرة المنزلة.

إقرأ أيضا
غلق المحال التجارية

الخبراء وأهل المعرفة والعلم وصفوني بأنني أخطر منابع التلوث البيئي الموجودة في مصر، ومعهم كامل الحق في هذا الوصف، فأضراري لم تنال من زراعة الفواكة والخضروات وحسب؛ بل امتدت للمزارع السمكية الموجودة “خِلسةً” وعلانية بشتى البقاع القريبة من مياهي، لكن تُرى هل تُنقذني أنا بحر البقر “ميزانية الحكومة” ومحطات المُعالجة المُزمع إنشائها؟.. أم أن الحال سيظل كما هو عليه بوعودٍ زائفة أسمعها ويسمعها أهل مصر منذ قرار الحكومة السابق بشأن تحويلي قبل نحو نصف قرنٍ من الزمان؟.






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
1
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان