مسلسل الحشاشين.. ليه نجح تنفيذيًا وفشل فنيًا؟
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
الفن زيه زي أي مجال عملي، لو مافهوش منافسة يبقى البقاء لله فيه، المجال هيتدهور وحتى نجومه تدريجيا هيخيبوا ومستواهم هيقل. وأي عمل فني يلزمه إن صناعه يتمتعوا بحرية في الإبداع والتعبير عن رؤاهم الشخصية، ولو افتقدوا ده هيقدموا شغل محدود فنيًا.
ومسلسل الحشاشين هو عمل فني، توفرت له المنافسة وافتقد لحرية الإبداع، فبقى عندنا خلطة قوامها التنفيذ الجيد لعمل محدود فنيًا.
ده حصل إزاي وليه؟، سؤالين هحاول أفككهم ونفهمهم سوا في المقال ده.
المنافسة
في أي سوق تُعتبر أهمية المنافسة أمر بديهي يعرفه كل متخصص في أي مجال، والمسألة مش مرتبطة فقط بالاقتصاد الليبرالي.. إنما كمان لإن إنعدام المنافسة بيخصي الشغف في الفعل والدافع في التفوق، فلو إلغاء التنافسية بيحمي المُستهلك من الاستغلال.. فإلغاءها هيؤدي تدريجيًا إلى حصول المستهلك على منتجات رديئة بلا بدايل، والأخطر إن مع الوقت السوق هيخلوا من المتخصصين المتميزين/المُبدعين في مجالهم.
المنافسة الإنتاجية
الفن زي مجالات كتير.. هو “سوق”، لو المستثمر فيه مالهوش منافس.. الجودة مش هتبقى ضمن اهتماماته، ولو مش قلقان لا من منافس يخطف من الزباين ولا من خسارة الفلوس.. فأوتوماتيك كوالتي المُنتج وحتى التعامل الاحترافي مع فريق العمل وحتى المهنية؛ كل الحاجات دي هتخرج من حساباته، وهتحل محلها أي حاجة تانية تكون مسيطرة فعليا ع السوق في شكله ده.
المنافسة الإبداعية
الفنانيين محتاجين المنافسة أكتر من أي حد تاني، يمكن أكتر من السياسيين، فإنعدام المنافسة بيحولهم لموظفين في مهنة ماينفعش “نفسيًا” التعامل معاها كوظيفة، ينفع التعامل معاه كحرفة أو صنعة.. فيكتفوا إنهم يكونوا صنايعية شُطار، ومايكونوش مبدعين. زي الرسامين اللي عايشين من نسخ اللوحات أو رسم الصور الشخصية.
يسرقوا أفلام أو يشتروا فورمات أو أي شكل قديم أو مستحدث يخلي الفنان من دول شغال وهو معلق قصاده ع الحيطة صنم اسمه “الريفرانس”، يخلص له أحيانًا الفنان الصنايعي أكتر من منطق العمل نفسه، فيتورط في نحت “ريفرانس” بدون أي اعتبار للدلالة اللي يحملها “الريفرانس” وبين الدلالة الموجودة في العمل اللي بيقدمه.
فنشوف الشرير “الكلاسيكي” في لوحات الريفرانس بتاعها هو “الخير المطلق”، زي المخرج بيتر ميمي ما نحت لحسن الصباح كام كادر أيقوني من الكادرات الخالدة في قصة المسيح.
إنما مع إنعدام المنافسة تمامًا وتحول الفنان إلى موظف هنقابل بلاوي يشيب لها المتفرج من أول حلقة، زي ظُلُمات أعمال الفنان مصطفى شعبان وغيره من الفنانيين المحجوز لهم مكان في السيزون.
مكان هيتملي بأي حاجة عليها اسمهم وكلها هتُرزق، عجب الجمهور أو ماعجبش.. النقاد كتبوا كويس أو وِحِش الناس مدحوا أو ذموا، أو حتى ماحدش من بابه أتفرج.. مش مشكلة، كإنه ماتش في الدوري بين فاركو وسيراميكا كيوباترا.. ماحدش عارف مين دول ولا بيلعبوا ليه ولا إيه مراكزهم ولا اللعيبة دي كويسة ولا وحشة أصلا، بس قشطة الملعب مفتوح والكل لابس الفنلات والتلفزيون بينقِل ومُعلق متحمس وبيحاول يكون له لزمة وستوديو تحليلي بالساعات… والأهم إعلانات شغالة الله ينور.
حرية الإبداع
أهمية حرية الإبداع أمر لا مفر منه لتطور أي مجال فني، فكل ما زادت الممنوعات والمحاذير وسقف الحرية وِطِي.. بشكل أوتوماتيك المنتج الفني بيصاب بالهُزال. فالمحاذير والرقابة مع استمرار سيادتها بتغوص بشكل تلقائي جوه روح الفنان/المبدع، بالتالي عقله بينتقي الأفكار الصالحة للتفيذ ويبروزها.. أو يفتكرها من بين عاصفة أفكار حصلت في لحظة معينة.
فأفلام زي اختراع الكدب أو ترومان شو مش بس مستحيل تتنفذ في مجتمعات زي مجتمعنا، إنما من الأساس صعب جدًا فكرتها تيجي في بال حد من مبدعينا، لإنها تندرج تحت بند الأفكار الشاطحة اللي ماتأكلش عيش.. فالعقل “بانتخاب طبيعي” بيستبعد النوع ده من الأفكار.
ويزود أزمة الإبداع مع المناخ القمعي إن مش بس الفكرة هي اللي لازم تكون موافقة للمحاذير والرقابة، إنما كمان طريقة التناول، ونقدر نلاحظ ده بسهولة من كم التقطيع لدرجة الشلفطة اللي بتحصل لفيلم بروس الخارق لما يتعرض على قنوات ناطقة بالعربي، رغم إن فكرة الفيلم إيمانية جدًا وبتدعم سردية الدين والألوهية، إنما التناول الجرئ هيخلي مجرد تضييع ساعة في كتابة سيناريو بالشكل ده هو سَفَه مهني.
ونقدر نقيس على المعيار الرقابي ده باقي الموضوعات، وكل ما المحاذير وزادت وقايمة الممنوعات طِولِت كل ما القدرة على إنتاج أعمال فنية جيدة قَلِت.
ضربتين في الإبداع توجع
لما يتعرض وسط فني ما لضربة مزدوجة تنال من حريته ومن تنافسيته في نفس الوقت، نبقى كده رحنا في أبو نكلة، ومع الوقت الأعمال فيه هتبقى شديدة البؤس، فيبقى يوميات ونيس هو نموذج الدراما الاجتماعية وقبضة الهلالي نموذج للأفلام الأكشن و.. و.. و.. وعليه العوض في قدرتنا على التكاثر.
زنقة الرماديات
مسلسل الحشاشين واقع في منطقة رمادية، فصناعه أتحققلهم شرط المنافسة، طبعًا مش مع السوق المحلي لا سمح الله.. إنما مع الدراما التاريخية التركية والسورية، وإزاي يقدروا “ينفذوا” عمل ضخم من النوعية دي. والشهادة للفن.. فريق العمل كان قدها وقدود، باستثناء اختيار نيقولا معوض وسوزان نجم الدين لأداء شخصيات عمر الخيام وألينار.
ديكور.. ملابس.. خدع.. معارك.. جرافييك… مونتاج.. موسيقى.. إلخ، كل مفردات العمل جيدة وبعضها جيد جدًا، كانت من بنات أفكار صُناع العمل أو باختيار “ريفرانس” من أيقونات المسيح أو عوالم صراع العروش، أو حتى استلهام خطوط درامية من أعمال أدبية/فنية قديمة، زي روح ثنائية “التبريزي وتابعه قفة” اللي أتاخدت من رائعة الفريد فرج (على جناح التبريزي) وتم نفخها في خط الدراما بتاع عمر الخيام عشان تحييه، وتنقذه من مَّوَات نيقولا معوض لحيوية وبساطة أوزو اللي لعب دور (صهبان البلان).
لكن في نفس الوقت اتحرم صُناع المسلسل، زيهم زي غيرهم، من حرية الإبداع، فمن ناحية كانوا أسرى لرؤية سابقة التجهيز.. وهي المقاربة بين حركة الحشاشين وبين حركة الإخوان المسلمين، ومن ناحية تانية خلال خلال الكتابة والتحضير كانوا شغالين على عالم كله حوارات فلسفية وعقائدية وفقهية وأحداث سياسية.. بس مُجبرين يتفادوها كلها عشان مايصطدموش بأي من المحاذير أو المعايير الرقابية، عشان تتحول عملية الكتابة لعملية مشي في حقل ألغام.
عمل منزوع الدسم
زي ما هو معروف.. أسهل طريقة لتجاوز حقل ألغام هي عدم دخوله بالأساس، وتقريبا هو ده اللي عمله صُناع العمل، الناس الله يكون في عونهم شغالين على واحدة من أكتر الصراعات الفكرية والعقائدية في تاريخ الإسلام، واللي بتدور في أحد أحط عصور “الدولة” العباسية سياسيًا وعسكريًا، بس في نفس ذات الوقت مايقدروش يفتحوا أبواب نقاشات فلسفية أو فقهية أحتاجت السلطة الدينية قرون عشان تعرف تقفلها، مسائل لو اتفتحت المعسكر السُني نفسه مستحيل يفضل محافظ على تماسُكه “الشكلي”.. زي مثلا معضلة الأسماء والصفات أو التسيير والتخيير أو السؤال هل القرآن مخلوق ولا أزلي… إلخ.
المشي من بره
المهم في الأخر الكاتب عبد الرحيم كمال وصناع العمل ربنا وفقهم وتفادوا تفاصيل كافة الموضوعات الخاصة بالخلاف بين السُنة والشيعة وبين صاحب قلعة ألموت وبين السلاجقة، تجاهل كمان الصراع بين السلاجقة والبلاط العباسي، وطبعا طبعا.. تجاهل كتابات أبي بكر الغزالي وتحريضه ضد الباطنية، وأشهرها كتابه “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” اللي كتبه بأمر ودعم من الخليفة العباسي المستظهر بالله.
ده حتى دنيا زاد لما أتقلبِت على جوزها حسن الصباح، بعد إعدام إبنهم، كل حواراتها الهجومية ضده كانت نفس الكلام العاطفي.. مافيش أي نقد موضوعي لفكرة الإمامة أو الإمام الغائب ولا عصمة الأئمة ولا أي هَوِبت ناحية أي باب من أبواب نقد الباطنية.
كمان لما الواحد قال: “أخيرا فُرِجت.. وهنعرف هي الناس دي مختلفة على إيه”، وقت المناظرة المرتقبة بين دعاة الدولة السلجوقية “السُنة” وبين دعاة قلعة ألموت “الشيعية”، فجأة لقينا نفسنا نقلنا على النتيجة مباشرة.. بدون استعراض أي مسألة أو خلاف فقهي.
أما نُكتة المسلسل والموسم الرمضاني كلُه فكانت في الحلقة واحد وعشرين، وتصوير لقاء بين عمر الخيام والغزالي، مشهد المفروض يورينا قد إيه الغزالي راجل متسامح ويمثل الإسلام الوسطي اللي بتتبناه “الدولة” السلجوقية. على عكس الواقع تماما.. فالغزالي مش بس كان ضد الخيام، إنما له واحد أشهر مؤلفاته تهافت الفلاسفة كان لمهاجمة الفلاسفة والفلسفة ذاتها.
كمان من ضمن كتابات الإمام الغزالي الكتيرة يتصدر كتاب إحياء علوم الدين أدبيات جماعات الإسلام السياسي، الكتاب ده تحديدًا تم اختياره عشان يكون نقطة البداية البصرية للمشهد المعجزة.
ختامًا
سَحلِة مسلسل الحشاشين بين توفر شرط المنافسة وفقدان شرط الحرية حَطِتنا قصاد عمل محدود فنيًا تم تنفيذه على مستوى عالي، وبقينا كجمهور محتاريين في تقييمه.. هل نِعتِبره (مِفَتَح وِسط عميان) ولا (زي اللي رقصوا ع السلم.. لا اللي فوق شافوهم ولا اللي تحت سمعوهم)؟؟
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال