همتك نعدل الكفة
158   مشاهدة  

محمد نجم.. تأملات فلسفية في الضحك والتصالح مع الذات

الفنان محمد نجم


يقع العديد منا في الخلط بين ما يقدمه الفنان وبين شخصيته الحقيقة، كثيرًا ما يختلط العالمين ببعضهما البعض، وعلى الرغم من بديهية الأمر وطبيعته، فلا أحد منا هو ذاته في عمله، ولكن لأنك ترى الممثل أو الفنان طوال الوقت أمامك قد يحدث هذا الاعتقاد، فالإنسان بطبعه بهوى القوالب فعلى الممثل الكوميدي أن يكون شخص يلقى الإفيهات طيلة الوقت، أو يكون خفيف الظل طيلة الوقت، أو يعيش حياه خالية من الانضباط، رغم أن الحقيقة هي العكس، فمثلا هناك العديد من الكوميديانات عرف عنهم الانضباط الشديد في حياتهم، فؤاد المهندس ووحيد سيف وعبدالمنعم مدبولي ومحمد الشرقاوي، ومحمد نجم، بل وهذا الأخير تحديدًا تعرض لظلم كبير، ظلم شارك فيه بنفسه ضد نفسه.

من أين جاءت كوميديا محمد نجم؟

محمد نجم
محمد نجم

المتابع للقاءات محمد نجم التلفزيونية “النادرة”، سيدرك أنه أمام شخصية شديدة الاختلاف عما نراها في المسرحيات، نجم الذي حمل فوق رأسه العديد من التهم الفنية أبرزها الابتذال والكوميديا الساذجة، بل وأصبح في فترة من الفترات هو النموذج الأشهر للمسرح التجاري الهابط، أو ما عرف لاحقا بمسرح “موسم الخلايجة”، الحقيقة أن هذا الرجل – بعيدًا أنه اتهم ظلمًا بكل ما سبق – إلا أنه كان شخصيّا شديد الانضباط وشديد التصالح مع نفسه مع عالمه.

لنبدأ من النقطة الأبرز ما هي كوميديا محمد نجم؟ نجم ينتمي لسلسال كوميديا الفارص سلسال يمكن الإشارة إلى أن على الكسار كان نقطة بدايته، والحقيقة أن الكوميديا في الأساس هي الفارص قبل أن تتلون، ويخرج عنها ما يمكن تسميته اصطلاحًا بكوميديا الموقف، لنجد نفسنا أمام مدرستي كوميديا رئيسيتين الأولى بنقطة بداية عند الكسار والثانية نقطة بدايتها عند الريحاني قبل أن تتشعب وتنتقل من ممثل إلى أخر، فنجم كما أسلفنا هو أحد فروع شجرة كوميديا الفارص.

صورة تجمع بين محمد نجم وعبدالمنعم مدبولي
صورة تجمع بين محمد نجم وعبدالمنعم مدبولي

الفارص هو الكوميديا المعتمدة على المبالغة، كأن تكون الشخصية الساذجة، ساذجة للغاية، والغبي كذلك، مما يتبع ذلك بالضرورة المبالغة في الحركات والصوت وردود الفعل المناسبة للشخصية، فإن خرجت ردود الفعل عن الشخصية بما يخالفها، فقد الممثل بوصلته واختل أداءه وصار معيبا.

ومحمد نجم بلا شك كان يجيد الفارص كوميدي، والحقيقة أن لديه توليفته الخاصة، بداية بالاعتماد على شكله والمبالغة في التعبير بالوجه، وهو أمر محمود في المسرح – والمسرح هو ساحة نجم الوحيدة- والمبالغة في حركة جسده وصوته وأدائه للشخصيات، والأهم هو الخروج المفاجئ عن النص من داخل الشخصية، وهي نقطة تميز نجم الأقوى.

الخروج عن النص.. ووجهي نجم المتناقضان

YouTube player

لنجم منطقتان للخروج عن النص، منطقة الرد السريع على خلل يحدث على الخشبة، سواء حينما يتعامل مع الجمهور أو مع ممثل بجواره، أو حتى أحد العاملين في المسرح، وهنا يكسر الحاجز الرابع ويتصرف كنجم المنتج لا الممثل، وأبرزها خروجه عن النص في مسرحية “الكدابين قوي” مع مظهر أبو النجا وحسن مصطفى، وأيضا خروجه عن النص في مسرحية “الخوافين”.

YouTube player

اللافت للنظر أن نجم لم يكن البادئ بالخروج عن النص، ففي مشهد “الكدابين قوي” كان مظهر هو من بدأ الخروج عن النص معترضًا على المشهد، وهنا جاء رد محمد نجم بالخروج عن النص لمجاراته، لا لصده أو تمرير الموقف، فطالما الجمهور يضحك سيستمر نجم فيما يفعله، وعلى من بجواره على الخشبة مجاراته – إن استطاعوا-.

اقرأ أيضًا
“كل ممثل وله طريقة” كيف كان رموز المسرح المصري الأوائل يحفظون أدوارهم ؟

كذلك في مشهد “الخوافين” كان مجدي وهبة هو البادئ حينما وجه كلامه للملقن الذي لم يسمعه وهبة جيدًا، وبالطبع انفجر نجم، وأصبح الملقن نفسه بطلًا في المشهد، بل إن نجم بذكاء كوميديان “قارح” وصفاء فنان واثق من نفسه، هو من جعل الملقن بطلًا للمشهد وعرف الجمهور به حينما كشف غطاء “الكمبوشة” وظل يعلق على ملامحه، أيها السادة لم يتنمر نجم على الملقن ولكنه وضعه في برواز لينال قسطًا من الشهرة وتحية الجمهور، فعل لا يجرؤ عليه سوى نجم ولا يستطيع تنفيذه بتلك المهارة إلاه.

YouTube player

والثانية هي الغالبة والسائدة وهي خروج الشخصية عن النص، وأبرزها بالطبع “شفيق يا راجل”، ولكن لنعقد مقارنة سريعة للغاية بين خروج نجم عن النص في “عش المجانين” وخروجه عن النص في “منور يا باشا” ما يقال على المسرح في الحالتين لم يكن مكتوبًا، بل إن نجم في “عش المجانين” خرج عن النص عبر الشخصية لا من خارجها، خرج عن النص من خلال شخصية “شريف” لا بشخصية نجم، كذلك في مشهده مع سماح أنور في “منور يا باشا” فهو خرج عن النص بشخصية المحامي لا بشخصية نجم.

YouTube player

الخروج عن النص من داخل الشخصية أمر في الكوميديا شديد الصعوبة، فإلافيه له إغراء، ولا يوجد كوميديان لا يغريه الإفيه يجري خلفه من أعظمهم إلى أعظمهم، فتش في أعمال كل كوميديان ستجد خروجًا عن النص خارج الشخصية لا داخلها، وفي الغالب يبدأ لخروج من داخل الشخصية قبل أن يتحول إلى خارجها، قليلون لديهم القدرة على مواجهة إغراء الإفيه سعيد صالح وسمير غانم ومحمد نجم.

YouTube player

في مشهد نجم في مسرحية البلدوزر بينه وبين توفيق الدقن، كان نجم حرفيًا يسير على الحبل، بل يتأرجح على حبل مشدود بين دفتي الخروج عن النص، فخرج عن الشخصية وكسر الحائط الرابع حينما استخدم لزمات توفيق الدقن، ولكنه استخدم هذا الخروج السريع عن الشخصية كفرشة للإيفيهات من داخل الشخصية التي عاد إليها سريعًا.

المتصالح “جدًا” مع ذاته

محمد نجم
محمد نجم

من مشاهدة لقاءات نجم لفت نظري أمرين شديدي الأهمية، الأولى أن نجم يفهم جيدًا ما الكوميديا، بل ويستطيع استقراء مسيرة فنان مما يقدمه من أعمال، مسرح نجم الذي ظل حتى بداية الألفية يعمل ويقدم مسرحيات عاش ما يقارب 30 عامًا وهو يحقق إيرادات تعينه على الاستمرار، إيرادات يترجمها نجم لنجاح وقدرة على جذب الجمهور رغم كل الهجوم الذي تعرض له.

وقدرته على جلب الجمهور والاستمرار، دليل حقيقي على فهم هذا الرجل لجمهوره، وقدرته على التنوع والاستمرارية، وأيضا إشارة لحبه الشديد لما يقدم وما يعمل، وهذه الاستمرارية دليل على أن نجم كان يقدم شيء ما له قيمة خاصة عند جمهوره، وهو الضحك، فمن سمات الكوميديا في المطلق أنها أذواق لكلًا منا ذوقه في الكوميديا وما يعجبه منها وما يألفها وتضحكه، فربما يضحكك فؤاد المهندس ولا يضحكك عادل إمام أو العكس فهذا لا ينقص من قدرهما في شيء، كذلك كوميديا نجم، فمهما كان موقفك منها فلا يمكنك أن تنتقص من حجم وقيمة محمد نجم كممثل كوميدي.

الأمر الثاني اللافت للنظر، هو تصالح نجم الشديد لا مع نفسه ومع ما يقدمه، ولكن حتى مع أفعاله وقراراته، هو يرى أنه اقتنع بالعودة من الاعتزال “نص اقتناع” ولا يخجل منه، يعرف أن ما يقدمه له جمهوره، ويعرف أن هناك يرفضه، فلا يطلب من رافضيه أن يعترفوا به، هو نفسه لا ينتظر اعترافًا من أحد، فالجمهور الذي اهتزت المقاعد أسفلهم من الضحك في أعماله هو أكبر اعتراف ممكن.

محمد نجم

متصالح مع فكرة أنه حتى لو كان هو نجم المسرحية ومنتجها، فلا يوجد نجاح سوى باللعب الجماعي، نجم من الممثلين القلائل الذين لديهم ثقة بالنفس تجعله يوزع إفيهات على زملائه، بل ويشجعهم على ذلك وعلى الخروج عن النص بل وإلقاء الإفيهات عليه هو نفسه، أخرين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها حينما حدث ذلك في بعض المسرحيات، ولكن نجم يدرك أن المسرح عمل جماعي، هو الهداف بالطبع ولكن لابد من صناع لعب مهرة بالجوار.

في كل مسرحية قدمها نجم ستجد أن بجواره كوميديان قوى، فهو وقف بجوار وحيد سيف وسيد زيان وحسن عابدين وغيرهم من كوميديانات لها ثقلها على خشبة المسرح، وستجد شيء غريب نجم لم يحاول مرة واحدة أن يخطف الضوء من أحدهم، بل ستجده يتوارى قليلًا ليفسح له المجال، حتى يشعر أن الإفيه بدأ في الخفوت فيعود ليعيد إشعاله، ويمارس لعبته المفضلة “البينج بونج” على خشبة المسرح، وإحقاقًا للحق، نجم لا يهزم في تلك اللعبة.

إقرأ أيضا
الحجاب

جريمة لا يمكن التكفير عنها

محمد نجم
محمد نجم

محمد نجم المنغلق على عالمه، الغارق في المسرح، لم يحاول أحد يومًا التوغل في هذا العالم، ففي عز نجوميته كان يشار إليه أن يقدم مسرح هابط ومبتذل، والحقيقة أن على العكس تمامًا، بنظرة بسيطة على موضوعات مسرحيات نجم، ستجد أن لدى نجم جرأة في الموضوعات التي يقدمها ومناقشة قضايا شائكة مثل فساد المسئولين في “منور يا باشا” أو الفساد المالي الذي غزا مصر مع شركات توظيف الأموال في الثمانينات وأوائل التسعينات في “واحد ليمون والتاني مجنون” أو استغلال البسطاء في “الخوافين” أو فساد رجال الأعمال عقب سياسة الانفتاح الاقتصادي في “البلدوزر”.

ولكن نجم كان من الذكاء بما يكفي كي يلف كل هذا النقد في قالب من الفارص الشديد، لانه ببساطة يريد أن يقول ما يريد كيفما يريد، التناول الذكي من نجم لموضوعات ربنا تكون شائكة في وقتها ضمن له أيضًا الاستمرارية، فهو قريب من الشارع والمجتمع بالفعل ويعكس ما يعيشون بطريقته، والغريب أنه في كل مما قرأت عن نجم أو حتى ما عايشته من هجوم عليه، لم يقترب أحد لمضمون ما يقوله ولكن كل الهجوم كان مركزًا على طريقته، فقد لأنها لا تتناسب مع ما يمكن تسميته بكوميديا المثقفين أو كوميديا على هوى النقد وفق الاتجاه السياسي والفكري ” الأيديولوجي” وهى مدرسة نقدية سادت في مصر منذ السبعينات وحتى نهاية التسعينات وكانت سببًا في حملات شرسة على أعمال وفنانين لا لشيء ولكن لأن ما يقدمونه لا يتفق مع أفكار بعض النقاد وقتها، وبينهم أسماء كبيرة وأساتذة في عالم النقد الفني.

محمد نجم

وحتى أثناء التركيز على كوميديا محمد نجم وطريقته، لم يلتفت أحدًا لبعض سمات نجم الفنية الهامة والخاصة، فنجم يمتلك إحساس عالي بالجمهور، وهي ملكة متواجدة عند ممثلين المسرح وخاصة الكوميدي بنسب متفاوتة، ربما لا يتفوق على نجم في تلك الهبة إلا سمير غانم، نجم أيضا يمتلك هبة خرافية وهي سرعة التأقلم وقراءة الممثل الذي بجواره، فتعاقب على نجم العديد من الممثلين وبينهم العديد من الأسماء القوية ولكن نجم، انسجم مع الجميع، بل إن نجم يستطيع أن يطوّع نفسه ويطوّع من معه على الخشبة ليحققا التناغم المطلوب.

نجم أيضًا صائد ماهر، والممثل الصياد على المسرح كنز، فهو يرى مكان الإفيه حتى لو كان في “خرم أبره”، ويستطيع استغلاله أعظم استغلال، “شفيق يا راجل” هي المثال الأبرز، هي نقطة عابرة كثيرين كانوا سيتجاوزونها دون توقف، ولكن نجم استطاع اصطيادها بل وجعلها هي لزمته الأشهر.

كل تلك المزايا غفل عنها النقاد والمثقفون، بل وصدروا هذا التغافل إلى قطاع كبير من الجمهور، وظلم نجم المنتج المنضبط ووصم بشخصياته، وظلم معه ما يقدمه، وتم وصمه بالابتذال رغم أن محمد نجم في رأيي ممثل كوميدي لا يشق له غبار، رغم أني لا احب هذا النوع من الكوميديا، ولكن بتجريد العاطفة، لا أملك إلا أن أقول أن هناك جريمة ارتكبت في حق محمد نجم ومسرحه، جريمة للأسف ستظل وصمتها تطارد أعماله للأبد وتقلل منها وتزدريها.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان