أمركة السينما المصرية (6) أنور وجدي “3” فن المجازفة
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
صنع أنور وجدي نموذج النجومية على الطراز الأمريكي لأول مرة، وفتح باب الفيلم الاستعراضي بشكله الحقيقي في السينما المصرية، وكون ثنائية فنية كلاسيكية مع ليلى مراد، غير بها شكل السينما الكلاسيكية المصرية، ليدشن هوليوود جديد في العالم، وهي مصر ويساهم بأكبر قدر في تحويلها إلى قبلة سينمائية إقليمية وعالمية، أنور وجدي السينمائي الخارق لم يكتفي الذي وضع السينما الأمريكية كنموذج فسار عليه، وأضاف إليه ليصنع سينماه الخاصة.
في عام 1932 ظهرت شيرلي تيمبل على شاشة السينما لأول مرة، طفلة لديها من العمل سنوات ثلاث، تقف أمام الكاميرا لتقدم دور سينمائي، في فيلم Red-Haired Alibiوبعد عامين فقط كانت شيرلي تمبيل حديث العالم السينمائي، طفلة تحمل داخل جسدها الضئيل موهبة جبارة في مجالات مختلفة تمثيل وغناء ورقص، وقبول وكاريزما، باب جديد فتحته أمريكا على السينما، والحقيقة أن استخدام الأطفال وإعطائهم أدوار داخل الأفلام السينمائية، لم يحدث في البداية مع شيرلي تمبيل، بل إن تشارلي شابلن على سبيل المثال لديه فيلم صامت طويل وهو “الطفل” ويعد أحد أبرز كلاسيكيات السينما العالمية صامتة وناطقة.
غزل البنات الفيلم الأكمل
لم تخطئ عين أنور وجدي هذا النموذج ولكنه كصانع سينما بارع، حينما تحول من ممثل إلى منتج ومخرج، استطاع في سنوات قليلة تثبيت أقدامه ونجاحه ويتربع على عرش النجاح والإيرادات، مع الإقبال الكبير على الفيلم الاستعراضي والخلطة السينمائية التي يقدمها أنور وجدي، كان عليه أن يختم مرحلة ويبدأ مرحلة جديدة، ولكنه كان يعلم أن المرحلة بحاجة لخطوة أخيرة لتكتمل الأرض الصلبة التي يقف عليها، لهذا جاء مشروعه الفني الأضخم، غزل البنات.
ليس مبالغة أن نقول إن غزل البنات هو الفيلم الأضخم والأبرز في مسيرة أنور وجدي مخرجًا ومنتجًا، والأكثر اختلافًا في أفلامه السابقة، في أفلام مثل “عنبر” و”ليلى بنت الفقراء” وغيرها ستجد العديد من المشكلات في الحبكة والسرد والدوافع، لأن جل ما يضعه أنور وجدي نصب عينيه هو الإبهار والصورة والاستعراض، والتركيبة التي حققت نجاحًا من قبل، منجرفًا وراء الرغبة في صناعة سينما جديدة على السوق المصري، ضحى أنور وجدي بجودة الكتابة ولكن هذا لم يحدث في غزل البنات.
القصة المتناقلة عن الفيلم تجيب على سبب جعل غزل البنات هو الأفضل، والسر هنا هو بديع خيري، الكاتب الذي لجأ له أنور وجدي ليضمن موافقة نجيب الريحاني على الظهور في الفيلم، والأهم التعامل مع الفيلم على كونه مشروعًا ضخمًا يجب أن يكون فيه كل ما يجذب الجمهور، وإرساء فكرة وجود نجم في كل دور، وظهور عبدالوهاب شخصيًا في الفيلم كضيف شرف وبصحبته يوسف وهبي، هذه أفكار لا تخرج إلا من رأس يفهم ويعي العملية السينمائية ويعرف كيف يجذب جمهوره.
في غزل البنات ستجد كافة أشكال الاستعراض، استعراض في مكان مفتوح، ستجد أغنية “اتمختري واتمايلي يا خيل” استعراض آخر في القصر، أغنية رومانسية مع رقصة، ولا ننسى أغنية الفيلم التي جاءت بصوت عبدالوهاب، فأغنية “عاشق الروح” هي الفيلم وقصته وحبكته من الأساس، هي قمة الهرم في صراع أستاذ حمام ومشهد الذروة في الفيلم الذي يبدأ بعده فصله الأخير.
لم يترك أنور وجدي وسيلة لضمان نجاح الفيلم إلا واستغلها، وبقدرة فنية عالية، فهو في تلك اللحظة نضج إخراجيًا في ترتيب وتسكين الأغنيات والاستعراضات داخل سياق الفيلم الاستعراضي، لجعلها نقلات درامية، وهو التعريف الفني الحقيقي للفيلم الاستعراضي، حتى حينما باغته القدر بوفاة الريحاني، أكمل أنور وجدي فيلمه وتخطى تلك العقبة، ليكون الفيلم هو الحجر الأثقل لمشروعه الفني القادم والمستوحى من السينما الأمريكية.
إعادة إحياء السينما الصامتة
من أهم مزايا أنور وجدي أنه قدم نفسه كممثل يقدم كافة الشخصيات، فكانت أمامه مساحة واسعة للتجريب والمجازفة كممثل، في الوقت التي كانت تستلهم فيه هوليوود قصصًا وأفلامًا من الشرق وقصصه، قرر أنور وجدي أن يعكس الأمر، الكونت دي مونت كريستو التي كتبها ألكسندر دوماس تحولت لأمير الانتقام، فيلم مغامرات كما أطلقته السينما الأمريكية، والتي جمعت من أجله قصص من الأساطير العربية والإغريقية تحولت لكلاسيكيات عالمية.
هذا التجريب كان في مختلف المجالات، ولا يخلو من المجازفات التي لم تكن جميعها لتربح، فمحاولات استمرار ثنائية أنور وجدي وليلى مراد لم تكن على نفس القدر من النجاح، حتى اكتشافه الأول وتقديمه لها قبل الأخرين في فيلم “أه يا حرامي” مر مرور الكرام ونسب اكتشافها لحسين فوزي، والذي حققت معه أولى نجاحتها وأكبرها وأشهرها، بينما أنور وجدي قرر المجازفة مرة أخرى، وألقى برهانه كله على طفلة صغيرة ليجعلها بطلة أفلامه.
حينما اكتشف أنور وجدي فيروز، أعاد إحياء تشارلي شابلن الصامت، أعاد إحياء كلاسيكيات السينما العالمية وقتها، جاء فيلم ياسمين قبل فيلم دهب، جاء ليحقق نجاح مدوي، بخلطة أمريكية مستوحاة بشكل واضح من فيلم الطفل لتشارلي شابلن مع العديد من التغيرات، تركيز وجدي في الفيلم وتقديمه جعله يهمل الحبكة التي جاءت ضعيفة، ولكن من سيهتم وقتها، بمبرر ترك ياسمين في ملجأ، ولكن الجميع سيهتم بشيرلي تمبيل الجديدة التي أطلقها أنور وجدي في وجه السينما، وتلك الأمركة لم تكن فقط في محاولة محاكاة شيرلي تيمبل او أفلام الأطفال، ولكن أنور وجدي كان منتجًا أمريكيًا أيضا بتخفيضات حفلات الصباح وقت عرض الفيلمان ودخول أي طفلة اسمها ياسمين مجانا مع عائلتها.
أنور وجدي هو أول من أتقن صناعة الضجة الدعائية للأفلام، أول من فطن لأهمية الترويج الجيد والسليم لها، وان هناك خطط وحملات ترويجية يجب التخطيط لها بعناية، مثلما يحدث في أمريكا، حيث السينما على أرض خصبة، فما المانع أن تكون مصر هي الأخرى أرض خصبة للسينما.
لذلك يستثمر أنور وجدي نجاح فيلم ياسمين ليطلق فيلم دهب وهذه المرة لم يقتبس الأمر من شارلي شابلن بل تحول هو نفسه لشارلي شابلن، أنور وجدي قام بما يشبه عملية تمصير فيلم “الطفل” ووضع له إطار مصري خالص، ليقدم نسخته من الفيلم، ليكون هو الأول وربما الوحيد الذي استطاع أن يقدم فيلم ناجح جماهيريًا وعلى مستوى الإيرادات من بطولة طفلة، ويكون ملهمًا للعديد من بعده.
ما فعله أنور وجدي في مسيرته السينمائية ليس تقليدًا أعمى أو أمركة من باب التشبه، ما فعله أنور وجدي هو متابعة كل جديد يحدث في أهم وأكبر سوق ومركز لصناعة السينما في العالم وتطبيقه في مصر بطريقتنا الخاصة، هو مدرك ان هناك الكثير من الفروق، هو لا ينسخ ولكنه يفهم ويستوعب النظرية ليطبقها، تعجبه قصة فيرويها بطريقته، يعجبه اتجاه أو شكل جديد للسينما فيصنعها على وصفته، ليفرد له مكانته الخاصة، ويكون أحد أهم رواد السينما المصرية.
الحلقة القادمة أمركة السينما المصرية (7) الفيلم نوار الجريمة لا تفيد ولكنها مبهرة
لقراءة الحلقات السابقة هــنــا
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال