همتك نعدل الكفة
34   مشاهدة  

أمركة السينما المصرية (7) الفيلم نوار .. الجريمة لا تفيد لكنها مبهرة

الفيلم نوار


في إحدى الليالي في عام 1946 وفي إحدى قاعات السينما بفرنسا التي ما زالت تعج بقوات الحلفاء ودبابتهم وبنادقهم وأفلامهم السينمائية، يشاهد الناقد الفرنسي “نينو فرانك” فيلمًا أمريكيًا من الأفلام التي كانت سائدة وقتها والقائمة على عناصر مثل الجريمة والغموض أو الجاسوسية، ليخرج علينا في اليوم التالي بمصطلح ستسمعه السينما وصناعها لأول مرة ” “film noir” “الفيلم الأسود”، بالتأكيد لم يدرك نينو فرانك، كان يفتح الباب على مصرعيه لجدال لن يتوفق حتى هذه اللحظة، بين من يعتبر أن “الفيلم نوار” أسلوب سينمائي وبين من يعرفه كنمط سينمائي، ولكن حتى الآن مازال الجدل مستمرًا.

الفيلم نوار الولادة من رحم الفقر والكساد والحرب

تجمع في وول ستريت بعد بداية الكساد الكبير
تجمع في وول ستريت بعد بداية الكساد الكبير

“film noir” أو “الفيلم الأسود”، ظهر نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية أصابت العالم أجمع، ظهوره بشكل رئيسي هو أول وأهم الدلائل على علاقة السينما والمجتمع وتأثير الطرفان في بعضهما البعض بشكل دائم، صاحب نهوض السينما في العشرينات فترة الركود العظيم الذي ضرب أوروبا وأمريكا وكافة الدول المرتبطة اقتصاديًا معهما، فمالت السينما لما أطلق عليه النظرة السوداوية، ومناقشة القضايا ذات الطابع التراجيدي المأساوي.

وعلى جانب آخر فقد ظهرت أفلام العصابات لتحقق النجاح التجاري، وهنا تم الدمج بين سوداوية الأفلام الاجتماعية، وإثارة وجرائم أفلام الجريمة، ليخرج هذا الأسلوب أو النمط الجديد إلى النور، وهناك العديد من الحبكات والخطوط والقصص التي يمكن اعتمادها واعتبرها من “الفيلم نوار” فقصص الجرائم والتحقيقات والانتقام والجاسوسية والغموض بمختلف أشكالها هي أفلام نوار، أفلام الرعب كذلك “أفلام نوار”، الأفلام الميلودرامية كذلكن بل إنه إذا اقترنت الكوميديا بالجريمة أو بالرعب أصبحت هي الأخرى فيلم نوار.

*لم يقم نقاد السينما باعتماد مصطلح الفيلم نوار ومحاولة تصنيفه إلا مع مطلع السبعينات*

ولأن هذا التعريف شديد العمومية، ويجعل العديد من الأفلام تنتهي إلى هذا الأسلوب أو النمط، كانت هناك بعض المحددات البصرية، والتي تزيد من تضيق دائرة الحصر والتصنيف، مثل استخدامات الإضاءة والزوايا، والتعامل مع الظل والنور، مثل طرق تنفيذ مشاهد الغواية والإغراء، تنفيذ مشاهد القتل، وغيرها من بعض التفاصيل التقنية والتي تتعلق بمعالجة العمل بصريًا وتتركز أغلبها في استخدام الإضاءة.

حينما كانت السينما سوداء دون أن تدري

الفيلم - نوار
من فيلم The Big Combo أحد أفلام الفيلم – نوار

ولكن الغريب، أن هذا التصنيف أيًا كان لنمط أو أسلوب، ظهر في منتصف الأربعينيات كمصطلح، جاء ليصف شيء موجود بالفعل، الغريب أنه موجود منذ فجر السينما فـ”كابينة دكتور كاليجاري” الفيلم الألماني الصامت هو أحد أبرز الأفلام المنتمية للفيلم نوار، والحقيقة أيضا أنع يمكن اعتبار الفيلم نوار هو امتداد للمدرسة التعبيرية الألمانية التي ظهرت مع فجر السينما انتقلت بسبب التقلبات الاقتصادية والسياسية في أوروبا إلى أمريكا، وفرضت نفسها مع الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، ليتم تطويرها وتحويرها واستخدامها لصناعة الفيلم – نوار.

عرفت السينما المصرية الفيلم نوار منذ أمد بعيد، فيمكن اعتبار الفيلم الصامت “تحت سماء مصر” والذي أخرجه وداد عرفي عام 1928، أول فيلم مصري ظهرت فيه فكرة “العصابة” أو الجريمة المنظمة، كذلك فيلم “الاتهام” إخراج ماريو فولبي عام 1934 هو أول فيلم تقوم حبكته على جريمة غامضة ومحاولة حلها، مما يجعله وفقًا لما اتفق عليه النقاد سواء اعتبروا الفيلم نوار نمط أو أسلوب، أول فيلم نوار مصري.

إعلان فيلم الاتهام
إعلان فيلم الاتهام

الحقيقة أن السينما المصرية كانت من أكثر السينمات إنتاجًا في الفيلم نوار بمعناه الأكبر، أي الفيلم السوداوي، فستجد في تاريخنا أفلام مثل من الجاني، والبؤساء، وشبح نص الليل، وهذا الفيلم تحديدًا يمكن اعتباره أول “محاولة” لتقديم فيلم نوار متكامل على الشكل الأمريكي، وهنا يجب الوقوف للحظة عند مخرج الفيلم والمشارك في كتابته ” عبدالفتاح حسن”، الروائي والكاتب والذي التحق بإستوديو مصر ليعمل ضمن مساعدي الإخراج وتتلمذ على يد فرايتز كرامب، وكان مساعده في فيلم “الحل الأخير” عام 1937.

الفيلم نوار في السينما الكوميدية والاستعراضية والغنائية

YouTube player

واللافت للنظر أن أفلام الفيلم نوار في مصر دخلت إلى كافة أنماط السينما الموجودة وقتها، فستجد فيلم “حلال عليك” لعيسى كرامة، هو فيلم نوار كوميدي، ستجد أنور وجدي يقدم فيلم “عنبر” و”قلبي دليلي”، وهما من الأفلام الغنائية الخفيفة ذات الطابع الكوميدي، ستجد المخرج إبراهيم عمارة يقدم فيلم “عدو المجتمع”، وأنور وجدي مرة أخرى يقدم “أمير الانتقام” عام 1950.

YouTube player

كل هذه الأفلام وغيرها، تجاهلها النقاد وتجاهلوا تأثرها الشديد بشكل الفيلم نوار، لنتخذ فيلم مثل “قلبي دليلي” كنموذج ونطبق عليه ما محددات الفيلم نوار، الفيلم يدور حول ضابط يبحث عن عصابة خطرة، وأثناء مراقبته يقع في حب فتاة يظن أنها من العصابة، وحينما يكتشف الحقيقة يقع في هواها ويخططان للزواج، وسط صراعه للقبض على العصابة وتطور الأحداث وتقع الفتاة رهينة للعصابة وينجح الضابط في مسعاه ويقبض على العصابة ويتزوج من الفتاة.

YouTube player

عصابة ولغز وبحث وغموض وجريمة داخل فيلم كوميدي وخفيف وغنائي واستعراضي أيضًا، تلك هي إحدى التوليفات الأمريكية لصناعة “الفيلم نوار” خاصة أن أنور وجدي كمخرج التزم حرفيًا بتنفيذ تكنيكيات الفيلم نوار البصرية داخل الفيلم، يمكنك فقط مشاهدة مشاهد ولقطات وكر العصابة والحفلات ومنزل كبيرهم، لتعرف كيف طبق أنور وجدي تقنيات الفيلم نوار البصرية.

بالمناسبة، نحن ندين بالفضل لأنور وجدي في إدخال هذا الشكل -الذي أصبح كلاشية- لوكر العصابة، وهو أيضا منسوخ من أوكار العصابات في سينما الجريمة في السينما الأمريكية.

كمال الشيخ وأول فيلم نوار على الطريقة الأمريكية

كمال الشيخ
كمال الشيخ

في عام 1952 سيظهر على الساحة مخرج جديد، وهو كمال الشيخ، الرجل القادم من قاعات المونتاج المغلقة والمظلمة، ليقف خلف الكاميرا ويقدم أولى أفلامه كمخرج، أول ليقدم مفاجأة حقيقية في السينما المصرية، فيلم “المنزل رقم 13” هو أول فيلم نوار مصري متكامل على النمط الأمريكي لأفلام الجريمة والغموض.

إقرأ أيضا
جحر الفئران

الحبكة الدائرة حول رجل يحلم بأماكن وأحداث لم تحدث له في الحقيقة، ويعالج عند طبيب نفسي، ويستغله الطبيب عبر التنويم المغناطيسي ويجعله يقوم بارتكاب عدد من الجرائم، لذلك فهناك إطاران للغموض، الأول بسبب عدم معرفة البطل لما يحدث له ومحاولته في البحث عن تفسير، والثاني في محاولة حل وكشف الجرائم التي ترتكب.

أفيش فيلم المنزل رقم 13
أفيش فيلم المنزل رقم 13

في هذا الفيلم قام كمال الشيخ بفصل الفيلم – نوار عن كشكل مستقل ونمط مستقل في السينما المصرية، بعدما كان أسلوب ضمن أفلام من أنماط أخرى، نجاح الفيلم المعتمد بخلاف أسماء أبطاله، على طزاجة الفكرة، فالتنويم المغناطيسي وقتها كان صيحة سينمائية غير مطروقة، فلم يستخدم قبلها إلا في فيلم “في الهوا سوا” للمخرج يوسف معلوف، وهو فيلم كوميدي غنائي استعراضي، ولم يستخدم داخل إطار الجريمة قبل ذلك إلا حينما جاء كمال الشيخ من غرفة المونتاج ليصبح مخرجًأ.

يوظف كمال الشيخ في فيلمه، كل شيء لخدمة الغموض والإثارة، وهنا تظهر جليا تقنيات الفيلم – نوار، واستخدامها في خلق التشويق المطلوب لفيلم الجريمة، أحجام الكادر التي لا تكشف الكثير ولا تفصح عن شيء، الظلال وتأثيرها المبهر في الصورة لإضفاء أبعاد جديدة على الشخصيات والأحداث، الإضاءات الخافتة، شريط الصوت والمكساج بين الأصوات في الحركة وترك مساحات أكبر للصمت، التنقل بين زاوية معرفة الأحداث بين كونك ترى الأحداث من وجهة نظر البطل أو من عين ثالثة، الحفاظ على الغموض دون كشفه.

ما قدمه كمال الشيخ في فيلم المنزل رقم 13، كان نتاج متابعة لنمط سينمائي ظل ينتشر ويشتهر في العالم أجمع بدأ من هوليوود وفي مصر قدمناه بطريقتنا بين الكوميديا والغموض والرقص والاستعراض كانت الجريمة حاضرة، صحيح أنها لا تفيد ولكن من قال إن الجريمة في السينما لم تكن يومًا مبهرة.

الحلقة القادمة
أمركة السينما المصرية (8) الأكشن.. طفل الفيلم نوار الشرعي

لقراءة الحلقات السابقة هــنــا

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان