فتحي سلامة موسيقار الجذور المصرية
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في سبعينات القرن الماضي تشكلت ملامح ثورة موسيقية جديدة بعد رحيل القطبان الكبيران” أم كلثوم، عبد الحليم حافظ” حيث شهدت خفوت شمس الأغنية الكلاسيكية مع انسحاب تدريجي للأغنية المسرحية الطويلة ومن ثم سوف تختفي فرق الموسيقى العربية كبيرة الحجم التي سوف تحل محلها فرق صغيرة تعرف بالـ Band.
اتجه المشهد الموسيقى العام نحو الأغنية الجماعية متمثلة في الفرق الموسيقية الغربية التي سيطرت على متن المشهد بعد أن كانت على هامشه لفترة أشهرها” المصريين،الجيتس،طيبة، الحب والسلام” وظهرت بجانبها تجارب غنائية جديدة من جيل كان يبحث عن ملء الفراغ الذي تشهده الساحة بمفاهيم جديدة عصرية تناسب التغييرات التي طرأت على ذوق المستمع المصري وفي نفس الوقت بعيدًا عن حمل إرث الكبار الثقيل.
قاد تلك الثورة أسماء هامة جدًا وضعت اللبنة الأساسية لشكل الأغنية المصرية الحديثة حيث برزت أسماء مثل “محمد نوح” أول من غنى بالعربية على فرقة غربية “النهار” ثم استكمل الثورة بعده “هاني شنودة” الذي شكلت موسيقاه ملامح تلك الثورة حتى ظهرت فرقة يحيى خليل التي قادت مشروع محمد منير من بعده والتي وصلت بالأغنية الجديدة “البديلة” إلى أقصى مراحل تطورها في بداية الثمانينات تحديدًا في شريط “شبابيك”.
في ظل سيادة نغمة العمل الجماعي حتى في التجارب الفردية مثل تجربة محمد منير والتي كانت نتاج ورشة عمل بين مجموعة كبيرة على رأسهم “عبد الرحيم منصور،مجدي نجيب،أحمد منيب،هاني شنودة ومن بعده اتت فرقة يحيى لتستكمل بعد ذلك” كان النجاح دائمًا ما ينسب للمجموعة دون تحديد أسماء بعينها كان لها الفضل الأول في نجاح التجربة وأغفل الباحثون والمهتمون بالتاريخ الموسيقي ذكرها ومنهم الموسيقار فتحي سلامة والذي كان يعتبر القائد الموسيقي لفرقة يحيى خليل في ظل انشغال يحيي بالأمور الإدارية للفرقة ولمنير ولم ينل القدر الذي يستحقه سواء جماهيريًا أو إعلاميًا.
مشاهد مبكرة من حياته
طفل تربى في أسرة متوسطة الأب يعمل بالهندسة والأم معلمة، لا يمتلكان ميولًا فنية سوى الاستماع بكثافة إلى كل صنوف الموسيقى سواء كانت شرقية أو كلاسيكية غربية، من خلال الراديو تعرف الطفل فتحي سلامة على أسماء مطربين مشاهير مثل “أم كلثوم” التي حضر بعض حفلاتها مع الأسرة، أحب صوت عبد الحليم وكان يميز بصمة صوت فريد الأطرش.
التقطت أذناه في أحدى المرات محطة “صوت أمريكا” التي كانت تداوم على بث مقطوعات موسيقية غربية كلاسيكية مع بعض القوالب الحديثة مثل “الجاز” التي تعلق بها فتحي سلامة دون أن يكون على دراية بنوع الموسيقى الذي جذب اهتمامه.
كعادة الطبقات المتوسطة في تلك الفترة “الستينات” كانت الأسر عادة تهتم بتعليم الأبناء الموسيقى درس فتحي البيانو على يد بعض المدرسين السوفيت المتواجدين في مصر وفي فترة المراهقة بدأ في تكوين فرقة صغيرة من أصدقاؤه كانت تعيد عزف بعض الأغنيات الشهيرة للعديد من الفرق مثل “Deep Purple – Black Sabbath – Led Zeppelin“
دراسة الموسيقى المبكرة ساهمت في تكوين أفكار فتحي عن أن الموهبة وحدها قد لا تكفي حيث يجب صقلها بالدراسة حتى يستطيع أن يكون له أسلوبه الموسيقي الخاص، رغم احتكاكه بالعديد من القوالب الموسيقية المتعددة إلا أن حلمه كان دراسة موسيقى الجاز حيث قرر أن يذهب إلى أمريكا “معقل موسيقى الجاز” حيث بدأ يحتك ويتعلم ويراكم خبرات بعد أن تمكن من العزف مع بعض الأسماء الهامة مثل “باري هاريس، صن رع، بات باتريك،هال جليبر”.
العودة إلى القاهرة
عاد فتحي سلامة إلى القاهرة أواخر السبعينات ليجد المشهد الموسيقى المصري قد تغير تمامًا عما كان عليه قبيل سفره، انضم إلى فرقة كونها عازف الدرامز “يحيى خليل” العائد ايضًا من أمريكا حيث تولت الفرقة قيادة مشروع محمد منير .
لم يقتصر دور فتحي سلامة داخل فرقة يحيى خليل على عزف البيانو والكيبورد فقط بل يمكن أن نعتبره القائد الموسيقي للفرقة حيث كان المسئول الأول عن الإخراج والتنفيذ الموسيقي مع عازف الجيتار “عزيز الناصر” في حين كان يتولى خليل إدارة الفرقة مع عزف البيركشن والكيبورد.
بعد بروفات استمرت أكثر من عام صدر شريط “شبابيك 1981” والذي يمثل ذروة تطور موجة الغناء والموسيقى الجديدة “البديلة” في مصر، الشريط كان طفرة وثورة موسيقية في تقنيات التسجيل والعزف والإخراج الموسيقي المتنوع تجربة أصلية لم يكن لها شبيه في المشهد الموسيقي لا قبل ولا بعد.
يكشف فتحي سلامة سر نجاح هذا الشريط في الفرقة التي لم تضع نصب أعينها ذوق الجمهور، لذا ظهر يحمل أفكارًا جديدة ومتمردة على شكل الأغنية السائد وأن الفرقة كانت تشبع شغفها بالموسيقى ولاقت تلك الأفكار صدى واسعًا من الجمهور الذي كان قد فقد الثقة في المشهد الرسمي للغناء المتكلس جدًا لذا ينسف شريط شبابيك مقولة” الجمهور عايز كده” وبالمناسبة قد لا يعرف الكثيرين معلومة أن أغلب أغنيات شريط “شبابيك” هي من توزيع فتحي سلامة بالكامل.
حقق الشريط مبيعات ضخمة جدًا ويضعه الكثيرين كأفضل شريط في مسيرة منير الطويلة وكان إعلانًا بأن هناك جيلًا جديدًا يضع قدمه بقوة على طريق تجديد الأغنية المصرية الحديثة في ظل ثورة الكاسيت الوسيط الجديد الذي صنع من خلاله الجمهور نجومه في ظل انسحاب دور الدولة من المشهد الموسيقي المصري.
البحث عن المجد الشخصي
لعب فتحي سلامة دورًا كبيرًا في مسيرة منير الأولى والتي يعتبرها البعض فترته الذهبية مع فرقة يحيى خليل وشركة سونار، اشترك بالتوزيع والتنفيذ الموسيقي في الشرائط التالية “اتكلمي 83 – برئ 86 – وسط الدايرة 87″،بالتزامن مع عضويته في فرقة يحيى خليل بدأ فتحي في بناء سيرة ذاتية منفردة كموزع ومؤلف موسيقى، بالأخص مع جيل الوسط أو جيل الأغنية الجديدة “البديلة”.
وضع بصمته على أغنيات “صلينا الفجر فين، بحبك وانطلق عصفور” للمطرب على الحجار، وتعاون مع مدحت صالح في “الحب رحلة،احنا مالنا” ثم انطلق يطبق أفكارًا جديدة في سوق البوب التجاري مع بعض الأصوات الشابة مثل “محمد فؤاد، عمرو دياب،أنوشكا، سيمون،حسن عبد المجيد”
ارسى فتحي سلامة قواعد شكل الأغنية الضاربة أو الناجحة التي تعرف بالـ Hits منتصف الثمانينات حيث كانت الأغنية التي يعول عليها في تسويق الشرائط، ضربت أغاني كثيرة من توزيعه أهمها “خالصين لـ عمرو دياب، القلب حب وداب لـ محمد الحلو، نسماية هلا لـ مدحت صالح، ويلاه لـ محمد فؤاد، تاني تاني لـ سيمون”.
ثورة الكاسيت الثانية
قبل عام 1988 كان سوق البوب المصري يتسع لنجاحات كثيرة سواء من جيل الوسط “على الحجار،منير، مدحت صالح، إيمان البحر درويش” أو من جيل الأغنية الشبابية”محمد فؤاد، عمرو دياب،فارس، إبراهيم عبد القادر” الذي كان يبحث عن ثورته الخاصة لكن بعد عام 1988 حدثت عدة زلازل فنية أهمها على الإطلاق شريط “لولاكي” للمطرب علي حميدة وشريط “ميال” للمطرب عمرو دياب.
تلك النجاحات الضخمة أعلنت عن ميلاد ثورة الكاسيت الثانية بعد ثورته الأولى في السبعينات على يد عدوية وأعادت تشكيل ذوق المستمع المصري وأعلنت عن تيار موسيقي جديد “جيل الأغنية الشبابية” الذي بدأ يكتسح المشهد،وضع فتحي سلامة بصمته على شريط ميال في ثلاث أغنيات منها الأغنية الرئيسية للشريط “ميال” ووقع البعض في خطأ نسبها إلى حميد الشاعري الذي وزع أربع أغنيات في الشريط.
حقق الشريط مبيعات ضخمة وبدأت شركات الإنتاج تحدد سياساتها التسويقية على أساس هذا اللون الجديد المتمثل في إيقاع المقسوم الذي يلقي رواجًا جماهيرًيًا، قابل فتحي هذه السياسات برفض شديد حيث كان ضد تسليع الأغنية المصرية وضد اجترار نفس الشكل الموسيقي وأنه ما دمنا قادرين على الإبداع لماذا الإصرار على حلب نفس الشكل الموسيقي حتى آخر نقطة فيه لذا كان قراره المهم جدًا بالابتعاد طواعية عن سوق البوب التجاري ليغطي شغفه الأساسي بالتأليف الموسيقي.
شرقيات.
كان فتحي سلامة يدرك أهمية التراث المصري الثري جدًا بألحانه وإيقاعاته وقوالبه الموسيقية وأنه ضد فكرة استيراد أشكال موسيقية غربية وإعادة تصديرها للجمهور مرة أخرى، اتخذ قرارًا بتأسيس فرقة أطلق عليها “شرقيات” وهي التسمية النابعة كون الفرقة سوف تغوص في صلب الموسيقى المصرية الخالصة ومحاولة دمجها مع أشكال موسيقية مختلفة للخروج بصيغة أشمل وهو كان تيار يعرف وقتها بالـ World Music حيث يمكن أن يتفاعل مع الموسيقى أي جمهور بأي لغة.
تعاقد فتحي مع شركة إنتاج سويسرية أتاحت له الفرصة في تقديم عروض الفرقة في العديد من الدول الأوروبية “سويسر، بولندا، بلجيكا، التشيك” وحقق نجاحًا كبيرًا في مهرجان الجاز في برلين صحبة عازف العود والجيتار الألماني الغربي “رومان بونكا” وفرقته “Embryo”
مثل هذا النجاح نقطة انطلاقة نحو غزو العالم بموسيقانا المصرية، أصدر اسطوانتين بعنوان “رقصة الجمل، طريق الجمل” ضمت مؤلفاته التي تعزفها الفرقة، والتي كانت تمثل الهوية المصرية وكان مهموما بفكرة تجميع الإيقاعات المصرية فأسس مجموعة جذور وبدأ في التفتيش في التراث المصري عن الإيقاعات وقام بعدة جولات فنية في إيطاليا وفرنسا،في عام 1995 أطلق ألبوم “Color Me Cairo” مع عازف العود الألماني “Roman Bunka” وعازف الكونترباص الأمريكي “Malachi Favors “
العودة إلى المشهد المصري
عاد فتحي سلامة للمشهد المصري عن طريق المسرح القومي حيث وضع الموسيقى التصويرية والألحان لمسرحية بيت العوانس من إخراج سمير العصفوري ولحن ووزع “ساح يا بداح” للمطرب محمد منير ثم تعاون مع المنتج “عمرو محمود” الذي أعاد إصدار شريط احتوى على بعض مؤلفاته مع فرقة شرقيات، ثم قدم تجربة لافتة جدًا مع المطربة سالي في شريط “حكاية بنت” والذي كان اتجاهًا مغايرًا لسوق البوب المصري حيث ضم اشكالًا موسيقية متطورة جدًا “إليكترو – فيوجن – راب” في ظل سطوة إيقاع المقسوم الشرقي على سوق البوب المصري ويعتبر أول شريط كاسيت مصري يناقش قضايا الفتاة المصرية عبر مراحل عمرها في المجتمع المصري.
لن تسمع عنهم كثيرًا .. المطربة سالي وحكاية بنت أول ألبوم نسوي مصري
اقدم فتحي سلامة على تجربة جريئة ومختلفة جدًا على المشهد الموسيقي المصري عندما تعاون مع المطربة الشعبية “جمالات شيحة” حيث لحن لها أغنيتان “جاية من بلد الأهرام – رسيني” وطاف معها العديد من دول العالم.
واصل سلامة مع فرقته شرقيات الاحتكاك بثقافات موسيقية مختلفة حيث دخل عدة مشاريع فنية حاول أن يدمج فيها تلك الثقافات في بوتقة واحدة تعاون مع فرقة الروك السويسرية Le Maniacs”” في عدة حفلات في أوروبا وأطلق اسطوانة “Don’t Climb The Pyramids ” والتي كانت خليط بين الموسيقى المصرية وموسيقى الروك حيث نستمع إلى أصوات المزمار والأكورديون صحبة الجيتار الكهربائية والكيبورد والطبلة والصاجات مع الدرامز والبيركشن.
طور سلامة نوعًا جديد من الموسيقى حيث دمج الموسيقى المصرية الشعبية والموسيقى الإلكترونية في مشروع أطلق عليه اسم “كشري” نسبة إلى الأكلة الشعبية المصرية وقدمه في مهرجان فني في تورينو الإيطالية.
الوصول إلى جائزة جرامي
أواخر عقد التسعينات تلقى سلامة اتصالًا هاتفيًا من المطرب السنغالي “يوسو ندور” حيث عرض عليه التعاون الفني، انطلق فتحي في تجربة جديدة دمج فيها بين الموسيقى الصوفية المصرية وبين الموسيقى الصوفية الخاصة بغرب أفريقيًا وقدم معه عدة حفلات تكللت بصدور اسطوانة “مصر” التي فازت بجائزة جرامي كأفضل ألبوم موسيقي عالمي معاصر عام 2004 ونالت الاسطوانة جائزة الـ BBC عن نفس الفئة.
تأثير فرقة شرقيات على المشهد المصري.
أثرت فرقة شرقيات على المشهد الموازي للموسيقى المصرية أو ما يعرف حاليًا بالاندرجراوند حيث نجاح حفلات الفرقة كان تشجيعًا لإطلاق العديد من الفرق المتأثرة بها مثل “الدور الأول – إفتكاسات”
مع بدء تيار موسيقى الأندرجراوند في مصر أوائل الألفية الجديدة اطلق فتحي عدة ورش فنية مع العديد من الفرق مثل “مسار أجباري – كايروكي – دينا الوديدي – نانسي منير – بلاك تيما”
ومع تنامي صعود تيار المهرجانات في مصر بعد ثورة يناير أطلق العديد من الورش الفنية مع بعض أقطابها “عمرو حاحا – السادات” وغيرهم ومؤخرًا عاد فتحي للتعاون مجددًا مع محمد منير حيث يقود فرقته الفنية حاليًا ولا ننسى أن نذكر أنه قدم الموسيقى التصويرية لـ فيلمين هما “جنة الشياطين 1999 – المسافر 2010”
دائمًا ما يردد الكثيرين مقولة أن الإغراق في المحلية هو بوابة الوصول إلى العالمية حتى أصبح التعامل معها يتم بشكل مبتذل جدًا وأحيانا يسخر منها بعض الفنانين الذين قرروا التنصل من تراثهم الموسيقي لصالح موضات الموسيقى المنتشرة فيما يشبه عقدة الخواجة لكن على العكس تمامًا تعامل فتحي سلامة مع موروثه الثقافي باعتباره الهوية التي يجب التعبير عنها وتقديمها إلى الغرب لأننا لسنا أقل منهم في شئ.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال