منير مراد ورحلة حول العالم والموسيقى في 6 دقائق
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
الموسيقى بالنسبة إليه كانت لغة، متعددة اللهجات بالتأكيد ولكن الكل يفهمها، حتى من جهل معاني رموزها، ونقاطها، منير مراد كان يتحدث الموسيقى بطلاقه، وكان يعبر نفسه وعن أحلامه بها، وخاصة مشاريعه الخاصة، البهجة المطلقة التي تخرج من ألحانه وخفة الدم والروح التي تسمعها الأذن قبل تراها العين، كلها سمات خاصة بموسيقى منير مراد، ولكن كان له سر خاص، وهو قدرته على التنقل في المكان والموسيقى كيفما يحلو له، لذلك كان الاستعراض والاسكتش الموسيقى أحد المناطق التي لا يمكن لأحد مبارزة منير مراد بها.
الانتقال في الإيقاعات أول القصيدة
في عام 1953 يقدم منير مراد أولى الأفلام من بطولته وتشاركه البطولة مطربته المفضلة وأكثر من عملت معه شادية، ليظهر فيهم “أنا وحبيبي” في الفيلم يبدأ منير مراد الفيلم بتقديم سريع لنفسه كمغني ومؤدي تمثيلي، ليقدم دخولًا مبهرا في مونولوج “قرب قرب”.
بألحان وكلمات سريعة أقرب ما تكون لموسيقى الراب، كتبها له بحرفية و”معلمة” فتحي قورة – الشاعر الذي شكل معه ثنائي خارق للعادة تحدوا سويًا ثنائية عبدالوهاب وحسين السيد – يحملنا منير مراد في رحلة سريعة وشيقة وخفة الدم بين الإيقاعات الغربية، قبل أن يختمها بالموال المصري، ثم العودة مرة أخرى للإيقاع الغربي السريع.
هذه التقديمة لا يمكن أن تمر مرور الكرام، في تلك اللحظة يكشف منير مراد عن ملامح وجه موسيقى خاص به، وهو القدرة على المزج الصحيح بين الإيقاعات الغربية والشرقية في جمل موسيقية متلاحقة، ليحملك وجدانيًا في أكثر من جو موسيقي مختلف، وربما بلدان مختلفة، خاصة وأن قبل منير مراد لم نسمع هذا، صحيح سمعنا العديد من الألحان التي تمزج إيقاعًا غربيًا في ألحانها ولكن التنقل بين الإيقاعات بهذه السرعة والسلاسة لم يقدمه أحد قبل منير مراد.
ولكن منير مراد في نفس الفيلم يؤكد ليس فقط على قدرته على التنقل بين الإيقاعات، ولكن أيضًا التنقل بين الأنماط الموسيقية التي تميز كل مطرب عن غيره، الأمر أكبر بكثير من مجرد تقليد أصوات أو أداء ولكن الأهم هو تقليد الهوية الفنية لكل مطرب، مساحات صوته والمقامات والدرجات التي يؤدها عادة ولزماته الغنائية.
- في مقطع مستقل مسجل من إحدى الحفلات وانتشر منذ فترة عبر الإنترنت، قام منير مراد بتقليد الملحنين إذا قاموا بتلحين أغنية لا مش أنا اللي أبكي لعبد الوهاب، في هذا المقطع تتجلى قدرة منير مراد على فهم الهويات الموسيقية للملحنين سواء من جيله أو من سبقوه، والأهم أنه يظهر أيضًا تخيله لشكل الموسيقى في المستقبل، وصدق أو لا تصدق لقد أصاب منير مراد كبد الحقيقة.
منير مراد والهوية الموسيقية للملحنين
في استعراض الإذاعة “محدش شاف” يبرع منير مراد في تقليد هويات المطربين الغنائية، رغم شدة تباينهم من فريد الأطرش لعبدالوهاب لعبدالمطلب لمحمد فوزي ومحمد عبدالوهاب، وليلى مراد، وليس فقط تقديم هويتهم الموسيقية في الغناء، ولكن منير مراد قدم أمر ساحر في هذا الاستعراض، لقد قام بتلحين مدخل كل مطرب وملحن من مدخله الموسيقى الخاص.
بمعنى، في الاستعراض يقدم منير مراد 5 مطربين بالترتيب، محمد عبدالوهاب، ليلى مراد، محمد فوزي، محمد عبدالمطلب، فريد الأطرش، وهذا يعني أن هناك 3 ملحنين بالإضافة لكونهم مطربين، منير مراد عمل مقدمة لكلًا مطرب ولكن في مقدمات الثلاثي “محمد عبدالوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش” جاءت المقدمة من رحم موسيقاهم وهويتهم كملحنين، بينما اكتفى بنقل مباشر من لحنه إلى لحن “أبجد هوز” الذي غنته ليلى مراد، ومقدمة بها إيقاع شعبي راقص قبل عبدالمطلب، وهذا يشير بوضوح لفهم منير الجيدة لمعنى الهوية الموسيقية وقدرته الفذة في التنقل داخل الموسيقى.
في عام 1955 كان منير مراد على موعد مع بطولة مطلقة هذه المرة، لا تشاركه فيها مطربة، فكان هو البطل والمطرب الأول للعمل، وبجواره سعاد مكاوي، التي استغل منير صوتها في واحدة من أروع أغنياتها “لما رمتنا العين”، ولكن الحديث هنا عن استعراض “لما تروح وتشوف” الذي كتبه فتحي قورة بالطبع.
لكي يقوم فنان بتلك الرحلة الصعبة بين الثقافات الموسيقية المختلفة، وهو يدرك تمام الإدراك أن كل ثقافة بها العديد من الأنماط والأشكال التي سادت وجاء غيرها، والتي تراكمت فوق بعضها البعض لتصنع ثقافة موسيقية، فأنه قد يقع في مأزق أنه يجب عليه اختيار شكل أو جمل موسيقية شديدة الخصوصية حيث تعبر تلك الثقافة، وهنا ولأول مرة يهرب منير مراد من الموسيقى إلى الاسكتش.
“من الدقيقة 22.22 إلى 32.12”
في الجزء الفرنسي لم يقدم منير مراد موسيقى تذكر، مجرد تنغيمات على حوار وأداء تمثيلي، مثلما حدث في الجانب الأمريكي، ولكن في كذلك في الياباني ولم يقدم موسيقى سوى في الثقافات الثلاثة “الروسية والشامية والمصرية” وربما تلك هي الأزمة التي احتاج ما يقرب من 13 عامًا ليعرف كيف يصنعها بمنتهى الاحترافية.
قلبي يا غاوي.. اللعبة الحلوة والوصول للكمال
لنقفز في الزمن قفزة هائلة 13 عامًا، في السينما يعرض فيلم فؤاد المهندس الجديد “مطاردة غرامية” وهناك اسكتش من تأليف فتحي قورة وألحان منير مراد، ولكنه ليس كأي اسكتش تتجلى قدرة منير مراد في فهم وهضم كافة الثقافات الموسيقية ويصل لذروة الكمال في هذا الصدد.
فمن البداية على تنويعة على مقام النهاوند، يغني عليها فؤاد المهندس البداية، حتى تدخل شويكار على إيقاع ياباني على السلم الخماسي أقرب ما يكون للسلم الخماسي النوبي*، تغني شويكار باليابانية، ولكن منير مراد يريد وصلة تصل بين كافة المقامات والإيقاعات التي سيستخدمها، هناك رد يجب أن يقوله المهندس، فعلي أي مقام سيرد؟
لإجابة السؤال يجب معرفة أن الانتقال بين المقامات في التلحين ربما من الأمور الكاشفة لحرفة وموهبة الملحن – أي ملحن- كيف ينتقل من مقام إلى أخر ولماذا وما هي طريقة الانتقال، لذلك ولأن الأمر سيتكرر مع اختلاف الإيقاعات والمقامات الأجنبية المستخدمة، اتجه منير مراد إلى المقام الرئيسي في الموسيقى العربية ليعود إليه، وهو الراست وليس المقام الأول في الأغنية.
الراست هو أهم مقامات الموسيقى العربية على الإطلاق، يمكن تشبيهه بأنك تقف في بهو به أبواب تقودك لكافة المقامات الأصلية والفرعية، العربية والأجنبية لأنه مقام مشترك بين الاثنين مثله مثل النكريز هو أيضا مقام مشترك بين الموسيقى العربي والغربي، العودة إلى الراست بعد كل مقطع سمح لمنير مراد بالتنقل الحر بين أنواع مختلفة في الموسيقى.
فمن السلم الخماسي الياباني ينطلق اللحن بعد العودة لموسيقى الكان كان الفرنسية والتي جاءت على مقطوعة أوفينباخ Galop Infernal من أوبرا Orpheus in the Underworld والتي عرضت في فرنسا لأول مرة عام 1850، ثم الانتقال إلى الموسيقى الأمريكية وأغنية آل دكستر Lay that pistol down وهي أغنية تنتمي لموسيقى “الكانتري” الأمريكية.
ثم عودة مرة أخرى موسيقى إسبانية غجرية على مقام أقرب لمقام الكرد الشرقي ولكن بإيقاع مميز لموسيقى الغجر، قبل الختام مع مقام الهزام في ظهور شويكار بالشكل المصري الشعبي، ولكن منير مراد يعود إلى حيث بدأ على مقام النهاوند في نهاية الأغنية من لحظة صدمة فؤاد المهندس واكتشافه الحقيقة حتى نهاية المونولوج.
رحلة حول العالم والموسيقى في دقائق معدودة قادنا فيها منير مراد، ببراعة طيار محترف، قدم فيها ما برع في تقديمه حينما تنقل بين كازينوهات فرنسا أو على شاشات تلفزيون المكسيك، هو فن التنقل بين الموسيقى وثقافاتها وإيقاعاتها وأنماطها، بسهولة وسلاسة جعلت تلك المغامرات الموسيقية حية حتى هذه اللحظة.
-
المصدر: مقال محمد سالم عبادة "أجنبي - عربي.. القلب الغاوي"
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال