رجال الصف الثاني (2) شمس بدران .. الذي لم يعرف عن الشمس إلا غروبها
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
بأصوات دوي الانفجارات وصفارات الإنذار، دقت طلقات القنابل والرصاص الساعة إيذانا ببدء نهاية عصر الدولة الناصرية، دولة بناها جمال عبد الناصر ورجال ثورته، ولكن الغريب أنه في الخامس من يونيو عام 1967 لما يكن قد تبقى من رجال مجلس قيادة الثورة سوى 4 رجال، بينما تساقط باقي أعضاء المجلس طوال الرحلة من عام 1952 وحتى عام 1967، ولنكن منصفين فإن دولة عبد الناصر قامت على أكتاف رجال الصف الثاني من تنظيم الضباط الأحرار، هؤلاء الذين أصبحوا رجال الدولة الأقوياء ومن بينهم شمس بدران قاهر الجماعة المحظورة -كما أسموه- ووزير الحربية أيام النكسة.
♦♦♦
الحصار والثورة
يحمله القطار الميري إلى فلسطين الفالوجة تحديدًا ليصبح الطالب السابق والضابط حديث العهد بالتخرج على موعد مع تطعيم المعركة الأول وربما الأخير، في حصار الفالوجة الشهير، ولكن القدر يدخر له مكافأة غريبة من نوعها، حيث يجمعه الحصار وخطر الجوع والهلاك بطلقات العدو بضابطين أعلى منه رتبة، عرف أحدهم أثناء دراسته في الكلية الحربية، جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ومن هنا تبدأ الرحلة.
عقب عودة شمس بدران من الفالوجة مع باقي القوات المصرية انضم للضباط الأحرار، وكان مسئولًا عن تجنيد الضباط في اللواء السادس بالجيش المصري لصالح تنظيم الضباط الأحرار، قبل أن يتحرك هو ومن معه في ليلة 23 يوليو عام 1952، ليبدأ فصل جديد في مسيرة شمس بدران.
كان واضحًا منذ البداية أن هناك انقسامات في مجلس قيادة الثورة، وسرعًا ما تشكلت الفرق داخل المجلس فمن انضم لمحمد نجيب كانوا أقلية، بينما استطاع عبد الناصر وعامر أن يجمعا حولهما العديد من رجال مجلس قيادة الثورة ورجال الصف الثاني أيضًا ومن بينهم شمس بدران وسامي شرف وصلاح نصر وعلى شفيق وغيرهم من صغار الضباط الذين دانوا بالولاء لناصر وعامر.
وعقب الانتهاء من تصفية الخلافات الداخلية واستتباب الأمر لجمال عبد الناصر القائد الفعلي للثورة، بدأ انقسام من نوع أخر، انقسم الفريق إلى فريقين فريق حول الرئيس وأخر حول المشير، فكان من نصيب الرئيس سامي شرف وشعراوي جمعة وعلي صبري، وكان من نصيب المشير صلاح نصر وشمس بدران وعلي شفيق وصدقي محمود، لتتشكل دائرتي صراع على رأسهما صديقين، لتكون تلك الصداقة هي صمام الأمان الذي يمنع تصادم تلك الدائرتين من مراكز القوى بشكل علني وعنيف.
شمس في ظل المشير
في ظل المشير تواري شمس بدران، مديرًا لمكتبه وذراعه اليمنى القوية بعد صلاح نصر، لانه على عكس الشائع لم يكن شمس بدران وزيرًا للحربية لفترة طويلة، فهي بالكاد تجتاز العام الواحد، ولكن كان له أدوار بارزة وهامة في منصبة كمدير لمكتب القائد العام للقوات المسلحة والذي كانت تفوق صلاحياته تلك التي يمتلكها وزير الحربية.
منذ البداية وشمس بدران رجل المهمات الصعبة، فكان أحد مندوبي عامر في اليمن، وربما كان المندوب العسكري الأبرز، مع السادات موفد عبدالناصر السياسي، وفي تلك الحرب أيضًا حدثت أولى الافتراءات على الرجل، فلم يقل شمس بدران يومًا أن حرب اليمن ستكون مجرد نزهة تنتهي بطلعة طيران تقصف مواقع حلفاء وأعوان الإمام البدر حاكم اليمن الذي تمت الإطاحة به، بل العكس كان صحيحًا حذر شمس بدران عبدالحكيم عامر من خطورة الحرب في اليمن وأنها قد تتحول إلى حرب عصابات طويلة، وهو ما صدقه عامر ولم يصدقه ناصر، وكانت النتيجة معروفة للجميع.
ولكن أهم الملفات التي تولها شمس بدران بعد أزمة سوريا والانفصال عنها، تلك الأزمة التي دفعت المشير ورجاله وعلى رأسهم صلاح نصر وشمس بدران بالاستقالة من مناصبهم، قبل أن يعيدهم ناصر مرة أخرى برفضه لاستقالاتهم، كان ملف تنظيم الجماعة المحظورة عام 1965 التنظيم الذي نجم عنه إعدام رأس الأفكار التكفيرية “سيد قطب”.
قاهر الجماعة التكفيرية المحظورة
في كتبهم حول تلك الفترة مثل كتاب “البوابة السوداء” لأحمد رائف، وكتاب التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين لعلي عشماوي أحد قادة التنظيم الخاص في قضية 1965، وأيضًا كتاب زينب الغزالي “أيام من حياتي” يجمع الكل على قوة وشراسة وعنف شمس بدران في التحقيق معهم، ويحملونه ومعه عدد من الأسماء مثل حمزة البسيوني وسعد زغلول ومحمد الروبي وغيرهم، مسئولية تعذيبهم المستمر طوال فترة حبسهم والتحقيق معهم.
والحقيقة أن تولي شمس بدران ذلك الملف تحديدًا كان بأمر مباشر من عبد الحكيم عامر، والذي تلقى الأمر هو الأخر من جمال عبد الناصر، وهنا يطرح سؤال مهم، في أغلب الأعمال الفنية والكتابات السياسية وصف شمس بدران بالشخص الضعيف الذي اختاره عامر ليستطيع السيطرة عليه ويضمن ولاء الجيش له، فكيف لعامر أن يكلف شخصًا ضعيف الشخصية بقضية هي الأخطر على أمن مصر الداخلي؟
الإجابة ببساطة أن شمس بدران لم يكن يومًا شخصًا ضعيفًا، بل كانت لدية القدرة والشجاعة اللازمة تمامًا ليكون مهابًا داخل أروقة الجيش، خاصة وأن سلطته وهو مازال “عقيدًا” كان تفوق سلطة بعض اللواءات في تلك الفترة، بل وكان همزة الوصل الحقيقة بين أوامر عامر والجيش، كما استطاع كسب ثقة عبد الناصر نفسه مرات عديدة، صحيح أن سلطته في الأساس كانت مستمدة من علاقته بعامر ولكنه في النهاية لم يكن أبدًا بتلك الصورة التي حفرت عنه.
-
في مقاله “شمس بدران.. صفحة مطوية في التاريخ” يتحدث الدبلوماسي د. مصطفى الفقي عن مشاهداته ولقاءاته مع شمس بدران في لندن عقب الإفراج عنه عام 1974، ليروي كيف أنه كان أمام رجلًا مهابًا مهذبًا واسع الاطلاع والثقافة شديد الخلق، محبًا لبيته وأسرته ومخلصًا لزوجته، ولكنه رجل دائم التشكك وشديد الحذر، فيروي انه كان يغير من طريق عودته ويحاول كشف إن كان مراقبًا أو يتبعه أحد طيلة الوقت، فهو كان يرى نفسه هدفًا محتملًا للتصفية سواء من الجماعة التكفيرية المحظورة أو من غيرها، وكان مرحبًا به دائما من الجالية المصرية هناك. –
شمس غربت سريعًا
استطاع بدران بالفعل أن يقهر الجماعة التكفيرية المحظورة، لولا رحيل ناصر وتوازنات السادات لكان خطرها زال منذ فترة طويلة، ومكافأة على هذا النجاح، عينه عبد الناصر وزيرًا للحربية في النصف الثاني من عام 1966 ليصبح الرجل الثاني في الجيش بعد القائد العام عبد الحكيم عامر.
أثارت تلك الترقية السريعة استنكار العديدين، ولكنهم اتفقوا على أن الأمر كان ترقية سياسية، البعض ذهب إلى أن عامر أراد إحكام قبضته على الجيش وأن يوهم ناصر أنه حد من سلطات عامر في الجيش بوزير حربية جديد يكون طوع بنانه، والأخر فسرها كونها ترقية يريد بها عبد الناصر اختراق دائرة المشير المقربة في الجيش، ولكن الثابت أن بدارن كان محل ثقة من الصديقين ناصر وعامر.
رغم أن بدران لم يمكث في منصب وزير الحربية إلى عامًا وبضعة أيام إلا أنه حمل على رأسه وزر النكسة بشكل كبير مع عامر وصلاح نصر وصدقي محمود وغيرهم من رجال المشير، ربما خطأ بدران الكبير هو مبالغته في نقل رد فعل السوفييت حول دعمهم لمصر، وربما لم يبالغ فالتاريخ يكتبه المنتصر دائما، والمنتصر في هذا الصراع لم يكن فريق شمس بدران بالتأكيد.
غربت شمس “بدران” سريعًا ولربما لم يعرف من اسمه إلا غروبها، عام واحد على كرسي الوزارة ورحل بعار هزيمة ثقيلة ودماء الكثيرين من الشهداء ليبقى في السجن حتى أفرج عنه السادات في 22 أكتوبر عام 1974 في أعياد النصر مثلما أفرج عن ما تبقى من رجال المشير ليرحل هو وصديقه على شفيق إلى لندن تباعًا ويظل هناك حتى وفاته، صامتًا مبتسمًا حذرًا ومهابًا مثلما كان على الحقيقة.
♦♦♦
74 عامًا على ثورة يوليو، ومازال هناك الكثير من رجالها وأحداثها غير معروفة بالشكل الكافي، رجال لم نعرف عنهم غير وجه محدد تم انتقائه بعناية ربما ليظهر ملائكية بعض الوجوه الأخرى، أحداث ورجال تراكمت عليهم الأنظمة والحوادث ونساهم التاريخ أو خلدهم بشكل غير موضوعي، رغم انهم كانوا في يومًا من الأيام رجال صنعوا دولة.
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال