تحريك “اقتصاد الابتكار” بتكامل العلوم “زي بلاد برة” ولا رضا أولياء الأمور؟
-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة
مقدمة لازمة
قاطعت التعليم المصري منذ سنوات، وقررت أن أنجو بأولادي عبر النظام الأمريكي الذي يتيح للطالب الاختيار بين المواد بما يناسبه في المرحلة الثانوية، غير المشاركة في مساعدة المعلمين في الشرح ونقل المعلومة وتنفيذ الأنشطة التي تستخدم العلم في تصميم مشروعات تتعلق بالحياة اليومية، واخترت تحمل الأعباء المادية على تحمل برمجة الأولاد على الحفظ والضغط العصبي غير معايرتهم لعدم تلقيهم دروس خصوصية في أي من مراحل التعليم المختلفة، وعلى ذلك أكملت الطريق بإرسالهم للخارج لاستكمال دراستهم الجامعية، وفي تجربتي توقفت عند أمرين، أولهما، خطورة استمرار هجرة الأولاد للتعليم الأجنبي بديلا عن الوطني لما يؤثر في تكوين ثقافي اجتماعي غير مصري، فيصبح الأولاد أجانب أكثر من كونهم مصريين، وأقصد في ذلك الثقافة التي ينجح التعليم الأمريكي في تنشئتهم عليها من خلال ربطه للمناهج بالمجتمع الذي يعبر عنه.
والأمر الثاني هو ما شهدته في توزيع المواد الدراسية في الجامعة بما يوازن بين التخصص ومتطلبات الثقافة والعلوم اللازمة لفهم الحياة بشكل عام، فمثلا تدرس ابنتي الكبرى الرياضيات وعلوم الكمبيوتر رغم ذلك تدرس فلسفة وسينما وتاريخ الأديان، وتدرس الصغرى علوم الاتصال والإعلام ومع ذلك درست في الجامعة الفيزياء والرياضيات عند مستويات أولية.
وبذلك حررت أولادي ونفسي من معايير المجتمع التي تقيم الإنسان بالتخصص الذي يدرسه أو ما نسميه حتى اليوم بـ (كليات القمة)، لا على ما يضيفه تخصصه للمجتمع ويبرع الإنسان في أداءه، ومع تخلصي من تلك القيود، زادت رغبتي في تخليص أولياء الأمور من شرور أنفسهم.
♦♦♦
كيف تقدمت دول وأصبحت عظمى؟ إحنا فين والعالم فين!
معلومة قد لا يعلمها البعض؛ وهي أن مهارات التفكير النقدي تجعل أصحابها قادرين على حل المشكلات بشكل إبداعي وأن هذه المهارات تأتي من تعلم مبادئ العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، توماس اديسون وهنري فورد “عباقرة” الابتكار مثلا لم يلتحقوا بالجامعة، انما كان لديهم مستوى جيد من التدريب المهني العلمي – والمفارقة التي تبرر النتيجة، أن فورد نفسه اشتغل لدى اديسون عدة سنوات، والجدير بالذكر أن العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في ذلك الوقت كانت في التعليم شبه معدومة.
تاريخيا بدأ الاهتمام بالتعليم التكنولوجي من مَنح الأراضي التي خصصتها الحكومات للجامعات بهدف التعليم وكانت في البداية تهدف لتعليم الزراعة والميكنة، وبزيادة المنح الحكومية للأراضي زاد التدريب ومعه زاد عدد المؤسسات التعليمية ليتضاعف التدريب على تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وباندلاع الحرب العالمية الثانية، وإطلاق القمر الصناعي السوفييتي سبوتنيك، ازدهر تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في العالم.
ولأن التطور يأتي كنتيجة لوضع الأهداف، فبإنشاء وكالة ناسا تطورت صناعة الفضاء واستحدثت كثير من التقنيات، وبالتبعية مع أول هبوط للإنسان على القمر وما تبع ذلك من انتصارات علمية، قدرت ناسا تكون مسئولة عن توفير منح تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في مجال الفضاء وترعى مبادرات للتعليم ما قبل الثانوي وما بعد الثانوي على مدى العقود الخمسة الماضية.
في الستينات بدأت كوريا خطة تنميتها الاقتصادية بالتركيز علي العلوم والتكنولوجيا، وفي بداية الألفية، أنشأت الحكومة الكورية وزارة التعليم وتكنولوجيا العلوم ودمجتها مع وزارة التعليم والموارد البشرية لتطبق سياساتها الخاصة بتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والعالي أو الجامعي.
الحكومة اليابانية التزمت بمجموعة متنوعة من الاستراتيجيات الوطنية لتعزيز العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، كان أهمها إلزام طلاب المدارس الابتدائية والثانوية بتعلم مبادئ العلوم والرياضيات، وتعليم النخبة (العباقرة) من مراحل التعليم الثانوي إلى الجامعي، وتيسير الفرص بين الجامعة والمسارات المهنية.
في سنغافورة وضعت الحكومة استراتيجيات وسياسات وبرامج لتحسين العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) في جميع مراحل التعليم، واستثمرت في الإنفاق على تطبيق خطتها طويل الأمد بالاهتمام بمهارات التفكير والبحث والاستثمار في المعلمين.
والحال لم يختلف كثيرًا عن حال أوروبا، في ألمانيا وفرنسا وأيرلندا وهولندا والنرويج وإسبانيا والمملكة المتحدة، فجميعهم لديهم سياسات واستراتيجيات وطنية للعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تلتزم بتطبيق أجندة واضحة.
بالمناسبة في جميع تجارب الدول المتقدمة كان ضمن سياستها تقليل الفارق بين الجنسين في تعلم العلوم والتكنولوجيا والعمل على تمكين المرأة للملائمة في الوظائف العلمية.
مفهوم الدمج والتكامل بين العلوم
في أواخر التسعينيات صاغت مؤسسة العلوم الوطنية بالولايات المتحدة الأمريكية، فكرة (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) ما عرفت باختصار الـ (STEM) والذي أزال الحدود والفوارق بين المواد العلمية والرياضية لتصبح موضوع واحد، يعتبر بحد ذاته نهج تكاملي للمناهج والتدريس، ويهتم بتدريب الطالب على نقل العلم والمهارات لغيره، واقتراح حلول جديدة بأبعاد مختلفة، والاشتراك في التدريس وفهم العالم بشكل أكبر بكثير من حدود الالتزام بالمقررات والمناهج.
مصر على الطريق رغم هزيمة الحكومة مرارًا وتكرارًا أمام أولياء الأمور
تأخرت مصر في وضع استراتيجيات التعليم الوطنية التي تؤهلنا لتنمية الاقتصاد، وزاد على فصل التعليم والجامعات عن المجتمع وبيئات العمل، تراجع الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى جانب انحدار في مستوى الخريجين بسبب تراجع جودة التعليم نفسه وفساد العملية التعليمية، وربما كان الاعتماد على منهجية الحفظ والذاكرة القصيرة سببا فاعلا في تراجع جودة الناتج عن العملية التعليمية ونهاية عصر المدرسة والمعلم لصالح مافيا الدروس الخصوصية، التي نجح المروجون لها في إقناع أولياء الأمور باستحالة التحصيل الدراسي في ظل كثافة الفصول، إلي جانب تراجع مستوى المعلم وعدم قدرته على فرض احترامه وسيطرته علي الطلاب في الفصل، فتمر السنوات ونشهد دروسا خصوصية في قاعات تمتلئ بمئات الطلاب يحكمهم باقتدار “مدرس خصوصي” يقف أمامهم بميكرفون، ولا يجرؤ طالب على مقاطعته، فربما يثير غضبه فيضيع بذلك جهد أولياء أمره في إلحاق ابنهم في حصص المدرس، بعد شهور انتظار!
وبعد أن كان العيب في المدرسة والأبنية التعليمية المتهالكة، ارتضى أولياء الأمور دفع مئات الجنيهات مقابل حصة أونلاين تضم العشرات من الطلاب، ولا يمكن زن تسمع شكوى.
نجحت مافيا الدروس الخصوصية في برمجة عقول أولياء الأمور وابتز ازهم عاطفيا واقناعهم بأنهم المخلصون من أنياب الوزارة وشرور المنظومة التعليمية!، وصدقهم الأهالي مدفوعين بعقدة الذنب الكاذبة تجاه أبنائهم
محاولات مصر رغم انتصار الطاغية! كل مرة نفس القلم
خلال العام الدراسي 2011-2012، تم طرح برنامج مدارس STEM في مصر، كنتيجة للمحادثات بين وزارة التربية والتعليم والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فتأسست مدرسة STEM للبنين في 17 سبتمبر 2011 في القرية العالمية على د. أحمد جمال الدين وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت، وبعد عام واحد بدأت مدرسة STEM للبنات أنشطتها بالأهداف والاستراتيجيات نفسها، اليوم تجاوز عدد مدارسSTEM وهي مدارس متخصصة في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، عشرين مدرسة منها الحكومية والخاصة والدولية والتي تتواجد في جميع محافظات مصر،
وفي خطوة مهمة، أعلنت وزارة التربية والتعليم عن إنشاء مدرسة العباقرة في القاهرة الجديدة، لتضم الطلاب الأوائل بمدارس STEM على مستوى الجمهورية، مع ربط المدرسة بجامعات مصرية وجامعات أجنبية.
وكان وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الأسبق، دكتور طارق شوقي أول من وضع حجر الأساس لهذه المدرسة، إلي جانب سياسات تعليمية جديدة لتطوير وتحسين المناهج وتغيير نظام الثانوية العامة والذي كلفه حملات مناهضة لسياساته من قبل أولياء الأمور وأصحاب المصالح من جماعات بيزنيس الدروس الخصوصية، كان من أهم نتائج هذه الحملات، رفض البرلمان مقترح تطبيق نظام الثانوية التراكمية 2018 واستمرار النظام على حاله لسنة واحدة، واستمرت المظاهرات الفيسبوكية ضد الوزير حتى استقالته يائسا من التغيير ليعم الهدوء مرة أخرى باستمرار المصالح في عهد الوزير السابق دكتور رضا حجازي، دون تغيير في السياسات.
حتى أعلن السيد/ محمد عبد اللطيف وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، منذ أيام عن خطة الوزارة للعام الدراسي الجديد 2024 /2025، والذي سينطلق في الحادي والعشرين من سبتمبر المقبل، ولأن التعديلات طالت الثانوية العامة – البعبع – وشملت تخفيض عدد المواد وتحويل مادة اللغة الأجنبية الثانية إلى مادة نجاح ورسوب فقط- وفي ذلك إضرار بسبوبة الدروس الخصوصية – عادت ثورة أولياء الأمور عبر السوشيال ميديا والحجة دفاعهم عن أرزاق المدرسين الخصوصيين لمادة الفرنساوي! ولم يشفع للوزير الهيكلة التي أقرت باستبدال مادة الأحياء بالتاريخ في القسم العلمي للثانوية العامة مع إلزام القسم الأدبي بدراسة الرياضيات، وتعديلات طفيفة في الصفين الثاني والثالث.
وذكرني ذلك ليس فقط بثورة أولياء الأمور ضد طارق شوقي الوزير الأسبق والتي تحولت بعد خفوت صوت لجان أصحاب المصالح إلى رثاء وندم، لكن بالعودة لأكثر من عشر سنوات وتحديدا منتصف 2010 عندما خرج أولياء الأمور ضد وزير التعليم وقتها الدكتور أحمد زكي بدر بعد إصداره قرارا يلزم من يرغب في تأليف أو طباعة أو نشر أو توزيع الكتب الخارجية بدفع مقابل حق الانتفاع بالمادة العلمية التي تملكها الوزارة، والذي تتراوح قيمته بين أربعين ألف للمادة في الصف الأول الابتدائي ومليون وثمانمائة ألف لمادة الرياضيات في الثانوية العامة.
أقام أصحاب المطابع دعوى قضائية ضد الوزير الدكتور أحمد زكي بدر، واتهموه باحتكار العلم، أما أولياء الأمور فطالبوا بإسقاط الطاغية، الذي رحل مع اندلاع ثورة يناير 2011 وانتهي مشروع زكي بدر للقضاء على الدروس الخصوصية كما انتهى مشروع طارق شوقي 2022
واحد زائد واحد يساوي كام؟
ثابت أن تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) كان السبب في زيادة النمو العالمي
وبما أن الاقتصاد العالمي أصبح قائما على الابتكار، فإن تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) أصبحت مهارات مطلوبة بشكل متزايد للمنافسة والتنمية.
وبما أنه ثابت – وفق توصيات أبحاث الجامعات المصرية – بأن الطلاب المصريين أقل قدرة على المنافسة مع الدول الأخرى في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فهذا يعني حاجتنا السياسية لاستراتيجية تطوير التعليم الوطني ليصبح محركًا لاقتصاد الابتكار، وهو ما يعتبر في حالتنا اليوم أولوية وطنية، تلزمنا جميعًا، بتحديات لتغيير الثقافة والتقاليد والعادات التي تقف عائقا بين أولياء الأمور ومصلحة ولادهم.
الكاتب
-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة