همتك نعدل الكفة
49   مشاهدة  

ملف أزمة الأغنية المصرية 2 : الألحان والصراع بين التيمة والجملة اللحنية

أزمة الأغنية المصرية
  • ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



في الجزء الثاني من ملف أزمة الأغنية المصرية ندخل في صلب عنصر اّخر من عناصر صناعة الأغنية المصرية وهي الألحان والتي تعيش صراعًا شديدًا بين التيمة البسيطة وبين الجملة اللحنية الرصينة.

منذ فترة انتشر تسجيل للملحن الكبير منير مراد يشرح فيه أساليب الملحنين الكبار في صياغة ألحانهم ثم بدأ يتنبأ بشكل الألحان المستقبلية حتى توصل في النهاية إلى شكل قريب مما يحدث الآن في سوق الغناء المصري، لو أخذنا رأيًا أخر في شكل الألحان المستقبلية سنجد أن موسيقار كبير أخر هو محمد فوزي قال على لحن أغنية “قلبي دليلي” للعظيم القصبجي بأنه لحن ينتمي إلى سنة 2000 نظرًا لتطوره الكبير عن ألحان تلك الفترة.

YouTube player

ما بين رؤية منير مراد وفوزي يتضح أن الأول رأي أن الألحان سوف تواكب إيقاع العصر الذي يعيش تسارع رهيب في كل شئ والثاني كان يعي أن التطوير هو الوصول إلى صيغة جديدة لا تنسف الماضي بل تبني عليه وتضع لمسات لم يضعها أحد من قبل وهي النقطة الفاصلة في مسألة التطوير، هل يرضخ الفنان لسمات العصر و توازناته حتى لو نسف الشكل القديم أم يحاول أن يصل إلى بناء جديد لا يتنصل من الماضي مع عدم إغفال أن الإبداع والإلهام غالبًا ما يولد لحظيًا دون إعدادات مسبقة سواء لمواكبة العصر أو تطوير ما سبق.

قوالب الأغنية المصرية

في خمسينات القرن الماضي كانت قوالب الأغنية المصرية قد وصلت إلى أقصى تطور لها، اختفت بعض القوالب مثل قالب الدور الغنائي مع ظهور بسيط لقالب الموشح، واستقرت على عدة قوالب كانت تسيطر على الساحة الغنائية ما بين مونولوج عاطفي،والطقطوقة الغنائية الخفيفة تندرج تحتها الأغنية السينمائية والقصيدة ثم الأغنية المسرحية الطويلة التي كانت نتاج تزاوج بين الطقطوقة والمونولوج.

ظلت الأغنية المصرية على حالها حتى دخول تيار الفلكلور إلى ساحة الغناء بقوة في الستينات حيث سيطر قالب الطقطوقة وبدأت الأغنية المسرحية الطويلة تعيش مرحلة ركود مع السبعينات حتى بدأت في الاختفاء تدريجيًا وبقى لنا قالب الطقطوقة وهو الشكل الذي ساد الأغاني حتى مرحلة قريبة وكان عبارة عن مذهب ومرجع رئيسي أو سينيو ثم الأغصان أو ما يطلق عليها حاليًا الكوبليهات، وعادة ما يكون شكل لحن الأغنية كالتالي لحن المذهب ولحن المرجع الرئيسي أو السينيو ثم لحن يتكرر في الأغصان وأحيانًا يكون لكل كوبليه جملة لحنية مختلفة وهو الشكل الذي طوره الشيخ زكريا أحمد ويظهر بشكل واضح جدًا في طقطوقة “جمال الدنيا” لكوكب الشرق أم كلثوم حيث كان لكل كوبليه أو غصن لحنًا مختلفًا ينتهي بمرجع رئيسي متكرر “دي ساعة القرب تهنى لي مادمت معاك”

YouTube player

ثورة الكاسيت وأثرها على الألحان

مع دخول الكاسيت سوق الغناء المصري تشكلت ثقافة سمعية جديدة بطلها الجمهور الذي بدأ يصنع نجومه الخاصة بعيدًا عن المشهد الرسمي للدولة التي كانت تفرض ذوقًا وثقافة معينة، ظهرت الأغنية البديلة بأفكارها الثورية ومضامينها المختلفة ووضعت اللبنة الاساسية في شكل الأغنية المصرية الحديثة على يد محمد نوح وهانى شنودة وبعض الفرق الموسيقية التي انتشرت في تلك الفترة.

كانت الألحان أبسط وأقل تعقيدًا دون انتقالات مقامية مرهقة مع الحفاظ على جودة الجملة اللحنية نفسها والتي كانت تعبر عن مضمون الكلمات في أغلب الأحوال مع التأكيد على أن قوة الملحن ليس في الانتقالات المقامية المبالغ فيها أو الاستعراض اللحني ولكن في كيفية توظيف الجملة أو الانتقالات المقامية للتعبير عن الحالات الشعورية للأغاني.

YouTube player

مع نجاح الكاسيت تجاريًا بدأ تهافت كبير من المنتجين على إنتاج أكبر كم من الشرائط وصلت إلى أكثر من 400 شريط لمطربة ومطربة في العام الواحد، هذا الكم الضخم من الأغاني أثر على شكل الألحان حيث عانت من بعض الاستسهال والرعونة في صياغة الجملة وبدأ النحت الفني يستشري في الوسط الغنائي بشكل كبير لكن على كل حال كان هناك شكلًا ثابتًا لأغلب الألحان “لحن المذهب ولحن للجملة الرئيسية ولحن يتكرر في الكوبليهات” مع بعض التغييرات الطفيفة في لحن الكوبليه الثاني.

أغاني الـ Hit

مع ظهور قنوات MTV صكت مصطلحات جديدة للأغنية أهمها الـ Hit Songs والتي تطلق على الأغنية التي تضرب نجاحًا جماهيريًا تحقق مبيعات ضخمة في سوق الكاسيت، تتغير مراكز الـ Hit Songs باستمرار مع صدور أغنيات جديدة وبمرور الوقت أصبحت هناك قواعد ثابتة في شكل تلك الأغنية، مثل أن تكون أغنية إيقاعية سريعة لا أفكار عميقة أو جديدة في الكلمات، لحن بسيط عادة ما يتكون من مقام واحد يسير وفق الشكل الذي ذكرته سابقًا دون نقلات مرهقة وهكذا.

قد لا تكون الـ Hit Song  هي الأكثر جودة داخل شريط الكاسيت أو الألبوم لكنها الأهم حيث غالبًا ما تكون عنوان الألبوم ويتم التعويل عليها لتسويقه بتصويرها على طريقة الفيديو كليب بطريقة تناسب أجواء الصيف الموعد الرسمي لإطلاق أغلب الألبومات، نجاح تلك الأغاني جعل أغلب أغنيات الشريط تسير وفق شكلها فأصبح أغلب أغنيات الشريط يمكن اعتباره Hit Songs  على سبيل المثال كانت أغنية “ميال” هي الأغنية الضاربة في الشريط الذي حمل اسم الأغنية لكن بالنظر إلى ثاني أغنيات الشريط “أول ما أقول” سنجد أنها لا تختلف كثيرًا عن أغنية ميال من حيث قالب الكتابة وأسلوب اللحن حتى طريقة الإخراج الموسيقي المعتمد على الإيقاع أكثر.

YouTube player

رغم النجاح الجماهيري لتلك الأغنية إلا أنه كان شائعًا أنه نجاحًا وقتيًا سرعان ما ينساها الجمهور لصالح أغنية أخرى تضرب وبالطبع أشهر الأمثلة على تلك الأغاني هي أغنية “لولاكي” التي غيرت مشهد الأغنية المصرية بالكامل لكن بعد ذلك لم تعد لولاكي بنفس الزخم السابق وحتى مطربها الراحل “على حميدة” لم يحقق ربع ما حققته تلك الأغنية من نجاحات وهنا بدأنا ندرك أنه لا قواعد بعينها تحدد الأغنية الناجحة من عدمه وكان هناك سباقًا بين كافة المطربين في الأغنية الضاربة فنجد في عام 91 نجاح كبير لأغنية مش عارف لهشام نور مع أغنية حبيبي للهضبة عمرو دياب مع وجود أغنيات لعلاء عبد الخالق، محمد فؤاد، إيهاب توفيق، مصطفى قمر، وحميد الشاعري وغيرهم إذن لا يحتكر اسمًا بعينه الـ Hit Song.

كانت تلك الفترة هي أنشط فترات الأغنية المصرية وجود ملحنين ثقال للأغاني الـ Hits  مثل “خليل مصطفى، حجاج عبد الرحمن،فاروق الشرنوبي،حميد الشاعري” ثم ظهور جيل جديد من الملحنين صنعوا أغاني كثيرة ناجحة لكن بجمل لحنية شديدة الروعة والقوة مثل “رياض الهمشري، صلاح الشرنوبي،حسن أبو السعود، محمد ضياء الدين” وهم أكثر الملحنين الذين كانوا يصنعوا جمل لحنية قوية وفي نفس الوقت تناسب ذوق جمهور الثمانينات والتسعينات، دون نسيان أن فترة التسعينات تحديدًا شهدت العديد من ملحني الطرابيزة الذين لا يجيدون عزف أي اّلة موسيقية وأن كان ذلك لم يمنعهم من أن تحقق ألحانهم انتشارًا جماهيريًا كبيرًا.

YouTube player

نور العين وبداية أغنيات التيمة اللحنية

لو قررت أن تكتب كلمات أغنية مثل أغنية “نور العين” لوجدت أنها كلمات قليلة جدًا بسيطة حد الركاكة في الصياغة تعتمد على إيفيه “الله عليك الله” لكن المبهر في الأغنية كان لحنها مع الإخراج الموسيقي المميز لحميد الشاعري، كلمات الأغنية الأصلية كانت باللهجة اللييبة نظرًا لجنسية ملحنها “ناصر المزداوي” وجرى تغييرها للمصرية رغم أنها لم تكن السابقة في الأولى في الأغنية المصرية في وجود لحن يتم كتابة كلمات جديدة عليه لكن كان بدايات التركيز على الجملة اللحنية الـ Catchy  التي تخطف الأذن بسهولة ولا يتم الاهتمام بالكلمات بل يجب أن تصاغ على نمط بعينه كي تلائم الجملة اللحنية الخاطفة في السينيو وهذا ما ظهر في الـ Hit Song التالية لعمرو دياب “عودوني” بمقدمة لا معنى لها “عشت عمرى قبل منك يوم، وأما جيتلى تانى عشته كله فى يوم” وانصب التركيز على جملة السينيو التي لا معنى لها ايضًا “عودونى عليك أحبك أو عينيك أحبك” لا يهم فلا معنى واضح للجملتين.

بعد نور العين اختلف سوق الغناء كثيرًا بدأت العيون تلتفت إلى الموسيقى الغربية أكثر وبدأت تتغير قواعد أغاني الـ Hits  حيث انصب التركيز على الإخراج الموسيقي الغربي غالبًا مع تيمة لحنية مركزة في جملة السينيو وهكذا تصنع الأغنية.

YouTube player

الجيتار يحل محل العود

مع بداية الألفية تغير المشهد بالكامل، أصبحت الأغنية الضاربة تعتمد على تيمة لحنية بسيطة من مقامين فقط “كرد أو نهاوند” مع سيطرة للشكل الغربي في التوزيع الموسيقي، حافظ بعض الملحنين على أسلوبهم في التلحين من حيث الجملة اللحنية القوية الراسخة مع بعض الملامح مثل “رياض الهمشري، حسن أبو السعود” وبدأ اختفاء تدريجي لصلاح الشرنوبي ومحمد ضياء الدين، ثم ظهر جيل جديد من الملحنين كان الجيتار بالنسبة لهم هو الأداة التي سوف يسيطرون بها على ساحة الأغنية المصرية، لن تجدهم يعزفون جملة لحنية قدر عزف كوردات بسيطة خلف الغناء وبدأ الاعتماد على التيمة اللحنية فقط التي سوف يرص عليها أي كلمات .

إقرأ أيضا
أنور وجدي

إحلال الجيتار محل العود جعل بعض المقامات الشرقية تختفي من الأغنية المصرية التي أصبحت تسير تحت وطأة مقامين فقط “الكرد، النهاوند” وأحيانًا مقام العجم، وقلما ما تجد أغنية على مقام الصبا أو الراست مع ظهور خجول لمقامات البياتي والحجاز وأصبحت الأغنيات تقريبًا تشبه بعضها من ناحية البناء اللحني المعتمد على التيمة وليس الجملة اللحنية مع التأكيد على أننا سوق الغناء لم يعدم الملحنين الأقوياء فلا زال متواجدًا ملحنين أقوياء مثل “وليد سعد،محمد رحيم،خالد عز، مصطفى عوض”.

من يقود السوق الغنائي

بعد ثورة يناير 2011 تقلص الإنتاج الغنائي بشكل كبير،ظهر الإنتاج المستقل من فرق الأندرجراوند وصلت أغنية البوب إلى مرحلة تكلس وركود ثم دخل على الخط نمط المهرجانات ثم الراب والتراب،والتي أعلنت سيطرتها على المشهد الغنائي.

هذا المشهد تسبب في اختفاء مطربين حققوا نجاحات ضخمة في السابق ثم كانت المفاجأة في أغنيتان أعادت أغنية البوب إلى المشهد مرة أخرى وهما “3 دقات” و”يا بتاع النعناع”،نجاح الأغنيتان بشكل كبير جعل مطرب بحجم عمرو دياب يتعاون مع رامي سمير موزع أغنية 3 دقات ثم يبدأ مغامرة ناجحة على المستوى الفني والجماهيري مع عزيز الشافعي ملحن يا بتاع النعناع والذي استغل تلك الفرصة ليصبح أكثر الملحنين انتشارًا في سوق الغناء.

YouTube player

أصبحت الأغنية الجديدة تغازل مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الفيديوهات القصيرة، لم يعد السوق بحاجة إلى أغنية تحمل أفكارًا لحنية متعددة بل جملة لحنية غالبًا ما تكون راقصة تلتصق بأذن المستمع ويمكن أن يبنى عليها ملايين الفيديوهات القصيرة.

استنوا شوية حمزة نمرة ورحلة الفقد المستمرة

لا يمكن أن نقول بشكل صريح أن هناك أزمة في الملحنين فالسوق يعج بالملحنين الأقوياء مثل “محمد رحيم، عزيز الشافعي، تامر عاشور،محمد يحيى، رامي جمال، إيهاب عبد الواحد” إلا أن أغلب الألحان القوية تراجعت بشكل كبير وفي نفس الوقت لم تعد الأغنية تحتوى على أفكار لحنية متعددة فقط جملة في المذهب ثم جملة أخرى كلزمة رئيسية ثم تعاد نفس الجملة الاولى في المقطع الوحيد بل قلما ما نجد أغنيات تحتوي على مقطعين أو كوبلهين كاملين الكل يلهث خلف ثيمة لحنية بسيطة والتي غالبًا ما يرص عليها أي كلمات.

هنا ندخل في صلب المشكلة الرئيسية وهي من المتحكم في صناعة الأغنية أو في شكل لحن الأغنية في ظل أن السوق كله يطلب أغنيات مقسوم مثلما صرح الملحن عزيز الشافعي من قبل لكن عزيز نفسه حقق نجاحات كبيرة في أغنيات لم تكن مقسومًا مثل “زي ما أنتي،أنا غلطان” والتي تظهر فيها جودته كملحن بل أكاد أجزم أنه قادر على قيادة السوق إلى هذا النوع من الأغنيات الناجحة والمطلوبة جماهيريًا مثلما فعل من قبل في “يا بتاع النعناع، خطوة، حياتي مش تمام” لكن اّفة حارتنا هي الاستسهال والنحت.

YouTube player

الكاتب

  • أزمة الأغنية المصرية محمد عطية

    ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان