رحلة سميرة سعيد من التجديد إلى التقليد
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في مشهد الغناء العربي تجارب مهمة سطرت تاريخًا فنيًا مبهرًا، رفعت شعار التطوير والتجديد غير عابئة بشكل الموسيقي السائد،.على رأس تلك التجارب تأتي تجربة المطربة الكبيرة سميرة سعيد، مرت بمراحل تطور مختلفة عبر مسيرتها الطويلة، تعتبر من أنجح تجارب الغناء النسائي اخر اربعون عامًا إن لم تكن الانجح على الإطلاق، لكن ماذا حدث ولماذا توقفت سميرة عن التجديد وتقديم المردود الفني المبهر هل تسرب الملل وفقدان الشغف إلى مسيرتها أم أن اللياقة الفنية لم تعد كما كانت في السابق وهل هي مضطرة إلى محاكاة بعض تجارب المشهد الغنائي الحالي ولماذا فقدت الميزة الأهم في مسيرتها وهي التطوير والتجديد، سنحاول الغوص في رحلتها الفنية المبهرة جدًا ونستخرج أهم المحطات التي قادت فيها مسيرة التغيير الفني ولماذا تحولت من التجديد إلى التقليد.
الصورة الأولى.
حتى أواخر الثمانينات كانت نجاحات سميرة سعيد داخل مصر تتلخص في الأتي؛ أغنيتان ملء السمع والأبصار “مش هتنازل عنك، قال جاني بعد يومين” بالإضافة إلى تتر مسلسل “ألف ليلة وليلة” المعروف لدى الجمهور بـ “احكي يا شهرزاد”، تلك الثلاث أغنيات من ألحان “جمال سلامة” الذي ذاقت معه النجاح الحقيقي لأول مرة رغم تعاونها مع ملحنين من العيار الثقيل مثل “بليغ حمدي، الموجي،محمد سلطان، حلمي بكر”، في تلك الفترة صدرت سميرة سعيد صورتها الأولى لدى الجمهور، مطربة قادمة من شمال أفريقيا تعتبر نفسها امتدادًا للشكل الكلاسيكي في الغناء مع بعض لمحات حداثية، كانت اسيرة تجارب ملحنين كبار لم تمسك بتلابيب مشروعها الغنائي بعد في ظل تمسكهم بأفكارهم الكلاسيكية عكس المشهد الغنائي الذي بدأ يلفظ تلك الأفكار
التسعينات مرحلة تحرر الصوت.
مع أواخر الثمانينات ظهر تيار الاغنية الشبابية على الخط، سيطر على مشهد البوب التجاري وسحب البساط من تحت أقدام تجارب جيل الوسط الذي بدأ البحث عن تغيير طريقة صناعة أغنياته، كانت سميرة محسوب على هذا الجيل “جيل الوسط” وبدأت محاولات اللحاق بركب التجديد والتحديث ولكن على طريقتها الخاصة في ظل سيطرة الغناء الرجالي على الساحة حيث كان يظهر كل يوم مطربًا جديدًا.
كان أول ملامح تجديد سميرة في تلك الفترة هي تكوين فريق عمل جديد، فضلت عدم الذهاب إلى الطرف الأخر حيث جيل الأغنية الشبابية وقررت أن تنتقي من لديهم القدرة على تقديم الجديد والمختلف وفي نفس الوقت دون انزلاق مشروعها الغنائي نحو التسطيح.
كان فرس الرهان الأول هو الملحن محمد ضياء الذي لم يكن يمتلك تجارب فنية ضخمة سوى تجربة وحيدة ناجحة مع مدحت صالح المحسوب على جيل الوسط في أغنية “خاصمت الشوارع” مع رفيق دربه الشاعر عماد حسن أحد أعمدة جيل الوسط الشعري، حمل ضياء تمردًا على شكل الأغنية الإيقاعية المسطحة، لديه القدرة على توزيع ألحانه بنفسه وهضم كافة الأشكال الموسيقية غربية وشرقية ويستطيع التقاط جملة لحنية رشيقة دون تسطيح.
كانت محطة ضياء الأولى مع سميرة من خلال شريط إنساني حيث لحن ووزع لها ثلاث أغنيات “انساني، غروب وشروق، حبيت” لكن الظهور الأهم لضياء كان في التجربة التالية في شريط “خايفة” حيث قدم لها اشكالًا متنوعة ما بين البوب الشرقي والغربي في أحلى عيون تخلص حكاية ثم قدم لها أهم أغنياتها في التسعينات “بشتاق لك ساعات” في قالب موسيقى الجاز والتي كانت مختلفة تمامًا عن تيار الموسيقى السائد،ثم أطلق صوت سميرة سعيد نحو اكتساح سوق البوب الغنائي في شريطها الأيقوني “عاشقة” في أغنيات “مش عتاب، أنا أحب”
في هذا الشريط تحديدًا نلمح جوانب هامة في تجديد سميرة انطلاق صوتها وتحرره من فلك المطربة الرصينة الكلاسيكية، عبرت عن عاطفة المرأة وقدرتها على أن تكون ندا للرجل دون التخلي عن أنوثتها في أغنية “سلمت”أو التعبير عن مشاعرها بحرية في “شوق على شوق” والتي كانت بدايات تعاونها مع المهضوم حقه “محمد مصطفى” ملحنًا وموزعًا ثم الحفاظ على شكل أغانيها الدرامية ولكن بشكل مبتكر في “بعد الرحيل، عاشقة” والأخيرة لحنها صلاح الشرنوبي الذي أعاد اكتشاف أماكن القوة في صوت سميرة سعيد.
في الشريط التالي “أنت حبيبي” ظهرت ملامح مشروع سميرة الاعتماد على ملحن قوي مثل “صلاح الشرنوبي” الذي قدم لها أغنية الـ Hit مش هقدر اوعد
ك مع لحن رصين جدًا في أغنية “لعلمك أنت” وتغليف عصري من موزع بحجم طارق عاكف ، ثم أبرزت ملامح تجربتها العاطفية النسائية مع الشاعر بهاء الدين محمد في أغنية “هو انت لازم تنجرح” والتي كانت تهاجم فيها غرور وغطرسة الرجل المتحكم في العلاقة، ثم اللمحة الأهم في الشريط والتي لم تأخذ حيزًا من الشهرة في أغنية “لمحت الحب” والتي كانت في قالب السوينج من موزعها أشرف محروس الذي أصر على خروجها بهذا الشكل بمساندة سميرة نفسها التي لم تخشى تجريب شكل غربي قد لا يستسيغه الجمهور.
واصلت سميرة طرق الحديد وهو ساخن في شريط “كل دي إشاعات” حيث اعتمدت على الثلاثي “محمد ضياء، صلاح الشرنوبي” مع الوجه الجديد على تجربتها “محمد مصطفى” حيث قدمت أشكالًا موسيقية متنوعة ومتمردة في أغنيات “كل دي إشاعات، نسيني العالم، وطني الغنا” مدعومة بتجارب شعراء أقوياء مثل “بهاء الدين محمد، عمر بطيشة، طارق عبد الستار،محمد البنا”.
في تلك الفترة تحررت سميرة من فلك صورتها الأولى انطلق صوتها بحرية كاسرًا كل القيود التي كبلتها، قدمت الأشكال الكلاسيكية بصيغة جديدة ونوعت في الإخراج الموسيقي متجهة نحو قوالب موسيقية غربية والأهم أنها قدمت نفسها في صورة المرأة القوية التي تقف ندًا للرجل ولا تخشى من مهاجمته.
الجلوس على العرش
رغم وجود منافسة شرسة في مضمار الغناء النسائي بوجود أصوات ثقيلة مثل “ذكرى، أنغام، أصالة” حافظت سميرة على قيمتها الفنية بعد انتقالها مع شركة “ستار” السعودية حيث أصدرت شريط “ع البال” والذي اجلسها حرفيًا على عرش البوب النسائي في الوطن العربي.
كان هذا الشريط هو التجربة الأكثر دسامة لها في التسعينات، تقديم مضامين وأفكار جديدة في الغناء العاطفي النسائي مع الشاعر الكبير “بهاء الدين محمد” الذي رسم شخصيتها القوية في أغنيات “زيك بشر،حالة ملل، لو كنت ملكي، بتيجي وتمشي” حيث عبرت بوضوح عن مشاعرها سواء إيجابًا أو سلبًا مع إبراز قوتها أمام الرجل.
وعلى مستوى الموسيقى اطلقت العنان للملحن والموزع محمد مصطفى الذي قدم لها تجارب موسيقية جريئة في “حالة ملل، لو كنت ملكي، ولا الأيام” مع استمرار الشرنوبي الذي نوع لها ألحانه ما بين الـ Hits في ع البال أو الرصانة في “ساعة عصاري” التي كانت عودة مظفرة للشكل الكلاسيكي في الغناء من الموزع أشرف محروس مع إعادة لأغنية بليغ حمدي “بنلف” احدى كلاسيكياتها القديمة في قالب جديد مع محمد عرام.
في التجربة التالية “روحي” استضافت حميد الشاعري ليضع توزيعه على أغنية الـ Hit مع تلحين وتوزيع أغنية “اّه بحبك”التي حققت شعبية كاسحة، كان ذكاء شديد من سميرة الاستعانة بحميد في هذا التوقيت بعد نجاحه الساحق مع عمرو دياب في نور العين وفي نفس الوقت كان حميد اكثر خبرة وتمرسًا عن تجاربه التجارية في موسيقى الجيل مطلع التسعينات.
شهد الشريط تألق شديد لصلاح الشرنوبي مع توزيعات محمد مصطفى ووجود العظيم طارق عاكف ثم المفاجأة الأكبر في التعاون مع رياض الهمشري في أغنية “أنا كده”.
مثلما كان محمد ضياء بطل المرحلة الأولى في التسعينات كان محمد مصطفى هو بطل المرحلة الثانية بجدارة،أوكلت له سميرة مهمة توزيع ألبوم “ليلة حبيبي” بالكامل عدا أغنية واحدة وزعها طارق مدكور و تعاونت سميرة مع بعض الوجوه الجديدة في سوق الغناء مثل “عمرو مصطفى، محمد رفاعي ، خالد عز” وكان أفضل ختام لها في حقبة التسعينات.
الألفية والتحول من سوبر ستار للميجا ستار
دخلت سميرة سعيد الألفية الجديدة و نصب اعينها تدشين ثورة جديدة مثلما فعلت في بداية التسعينات، شهدت تلك الفترة انفتاح كبير على الموسيقى الغربية التي استحوذت على أغلب أغنيات الـ Hits وكانت أغنيات المقسوم السريع تعيش أيامها الأخير.
لم يكن ينقص سميرة أي نجاح فني، لكن استمرارية النجاح كان الرهان الأصعب في ظل التغيير الحاصل في مشهد البوب، واصلت الرهان على محمد مصطفى والحقيقة كان رهانًا ناجحًا حيث تألق بشدة في شريط “يوم ورا يوم” ومنحها تنوعًا يناسب التغييرات بل كان سباقًا في بعض الأغنيات مثل “الله يسهلك، أزاي احب”، التعاون مع مدكور نجم الألفية في سوق التوزيع الموسيقي ثم الاستعانة بالروح الجديدة متمثلة في عمرو مصطفى الذي لحن خمس أغنيات في الشريط وكان في قمة مستواه الفني مع رفقاء الموجة الجديدة “ايمن بهجت قمر،أمير طعيمة ، خالد تاج،ربيع السويفي” وإطلالة هامة شرقية من رياض الهمشري في أغنية “ضحكتني” والتي واصلت فيها السخرية من الرجل.
في يوم ورا يوم تحولت سميرة من سوبر ستار إلى ميجا ستار حيث شكل الشريط مع شريط “تملي معاك” الصورة الأوضح لشكل أغنية الألفية الجديدة وقيادة مشهد الغناء لما هو قادم، حيث الميل أكثر إلى القوالب الموسيقية الغربية منح التجربة روحًا جديدًا تزيد من قيمتها وتضيف خصوصية جديدة عليها.
المدهش في تجربة سميرة هو قدرتها على الحفاظ على مستواها الفني والتنويع في اختياراتها في ألبومها التالي “قويني بيك” كانت الاختيارات أكثر دسامة وأن لم يحصد نفس النجاح الساحق في “يوم ورا يوم” لكنه على الأقل حافظ على تواجدها على قمة سوق البوب الغنائي النسائي حتى مع ظهور طوفان المطربات اللبنانيات وظهور أكثر من قناة فضائية مخصصة للموسيقى كانت سميرة على مستوى الحدث لم يخفت بريقها بل ازداد لمعانًا.
بداية انطفاء الوهج
في أخر تجاربها في العقد الأول من الألفية بدأت وهج سميرة في الإنطفاء بداية من شريط “أيام حياتي” رغم انها حاولت مواكبة التأثيرات الموسيقية الإلكترونية الحديثة مع الحفاظ على نفس أسلوب الأغاني الدرامية لكن التجربة كانت استنساخ لتجاربها السابقة دون أن تنفجر منه أغنية أو تحوز شهرة كبقية أغانيها.
بعد ثورة يناير تغير المشهد تدريجيًا بداية من سيطرة تيار الاندرجراوند على الساحة وانهيار الإنتاج الموسيقي التجاري ناهيك عن القرصنة الإلكترونية، ظهرت سميرة في أخر ألبوم رسمي لها “عايزة اعيش” بصورة متجددة بعض الشئ بالتعاون مع محمود العسيلي وعلي فتح الله وبعض الأسماء الجديدة على مشهد الغناء, رغم أن التجربة في مجملها جيدة على المستوى الفني في بعض الأغنيات منها الأغنية البديعة جدًا “حب”،لكن تغير شكل الجمهور وانهيار صناعة البوب بعد صعود موجة المهرجانات وأصبح النظر على جيل سميرة على أنه نوستالجيا الزمن الجميل.
مازال
لو لخصنا تجارب سميرة الأخيرة سنجد أنها تنحصر في تجربتان فقط الأولى “مازال” مع فرقة فناير المغربية وفيها غنت بالمغربية الدراجة ثم أغنية “ماحصلش حاجة” والتي كانت بداية الدخول في عالم الأغنيات المنفردة التي ظهرت فيها بأكثر من أسلوب موسيقي مختلف مع بعض الأسماء الجديدة مثل بلال سرور، هاني ربيع ، إيهاب عبد الواحد، عزيز الشافعي، تامر حسين” في أغنيات مثل “قط وفار، مون شيري، الساعة اتنين بالليل، كرباج” وهي التجارب التي سقطت سريعًا من ذاكرة الجمهور ” ثم دخلت في سلسلة من الأغنيات مع الملحن المثير للجدل “عمرو مصطفى” والذي لا يعيش فترة ذهنية أو فنية جيدة بسبب خلافاته المتجددة مع الوسط الغنائي.
تبدلت سميرة سعيد وانسلخت عن تجربتها الفنية الهامة التي كانت تقود السوق الغنائي مجددة لا مقلدة، لكن يبدو ان الأزمة لم تعد فقط في شخصية سميرة فنية أكثر من الوسط الغنائي نفسه وسيطرة شلة بعينها على المعروض وبالكاد تجد شئ لافت يمكن البناء والتجديد عليه، وأصبحت أغلب المحاولات ما هي إلا اجتهادات لإثبات الوجود فقط ومغازلة جديد يتحمس أكثر لموجات غنائية بديلة “المهرجانات والراب والتراب” وأن كان كل هذا لا يمنع أن تاريخ سميرة سعيد يشفع لها زلاتها الفنية الأخيرة كونها من أهم التجارب الغنائية النسائية في العصر الحديث.
رحلة محمد منير في التنازل عن عرش الغناء المصري
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال