“نحو الاكتفاء الذاتي” مشروع مستقبل مصر يغير خريطة الإنتاج الزراعي في البلاد
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
منذ عام 2014، أبدت القيادة السياسية اهتمامًا بالغًا بتوجيه بوصلة التنمية نحو الزراعة، مُدركةً أن هذا القطاع هو أساس النهضة الاقتصادية وركيزة الحياة الكريمة للمواطنين، وفي هذا الإطار، شهدت مصر تنفيذ مشروعات قومية طموحة، أبرزها مشروع “مستقبل مصر للإنتاج الزراعي”، الذي انطلق كفكرة في يوليو 2017 عندما وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي ببدء العمل عليه.
جاء المشروع ليكون نبراسًا لتوفير منتجات زراعية فائقة الجودة وبأسعار تناسب الجميع، إلى جانب تصدير الفائض إلى الأسواق العالمية، في خطوة تسهم في خفض الواردات ودعم الاقتصاد الوطني عبر توفير العملة الصعبة، وذلك كله ضمن رؤية مصر الطموحة لتحقيق التنمية المستدامة بحلول عام 2030م.
كيف جاء ميلاد مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي
في أبريل عام 2017، انطلقت شرارة الحلم حين وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي بالشروع الفوري في تنفيذ مشروع “مستقبل مصر” للإنتاج الزراعي، وجاء المشروع كخطوة ريادية تهدف إلى إنتاج محاصيل زراعية ذات جودة رفيعة تلبي احتياجات المواطن بأسعار تناسب قدراته، وتسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولم تقف رؤيته عند هذا الحد، بل حملت آفاقًا أوسع لتصدير الفائض إلى الخارج، مسهمة بذلك في تقليص الاعتماد على الاستيراد، وتعزيز مخزون الدولة من العملة الصعبة، والتقدم بخطى ثابتة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ويستهدف مشروع “مستقبل مصر الزراعي” استصلاح مليون وخمسين ألف فدان، وهو جزء من إجمالي مساحة الدلتا الجديدة البالغة 2.2 مليون فدان.
ويقع المشروع على طريق محور روض الفرج – الضبعة الجديد، الذي أنشئ ضمن المشروع القومي للطرق، بطول 120 كيلومترًا وعمق يتراوح بين 60 إلى 70 كيلومترًا. يبعد المشروع حوالي 30 دقيقة فقط عن مدينة السادس من أكتوبر، ما يجعله موقعًا استراتيجيًا لتعزيز التنمية الزراعية.
تم تصميم المشروع ليشمل 60 طريقًا طوليًا و35 طريقًا عرضيًا، موزعة على قطع متساوية المساحة، تبلغ مساحة كل منها 1000 فدان، بهدف تسهيل الحركة وتوفير بيئة منظمة لدعم القطاع الزراعي.
يُعد هذا المشروع الضخم، الذي بلغت تكلفته الإجمالية ثمانية مليارات جنيه، حجر الأساس لبنية تنموية طموحة تتطلع إلى المستقبل. ويمتد المشروع ليشمل تمهيد طرق داخلية، تشق مساراتها في عمق المنطقة بطول يصل إلى 500 كيلومتر وعرض 10 أمتار، ما يجعلها بمثابة شرايين تنبض بالحياة.
وعلى صعيد آخر، يتم حفر آبار مياه جوفية لتلبية الاحتياجات المتزايدة، بينما تتكامل الجهود بإنشاء محطتين كهربائيتين تضيفان قدرة قدرها 350 ميجاوات إلى الشبكة، بجانب مد شبكة كهرباء داخلية حديثة بطول 200 كيلومتر، تربط المنطقة بشبكة كهرباء الدلتا الجديدة، ولم يغفل المشروع توفير مقومات الاستدامة من خلال بناء مخازن لمستلزمات الإنتاج، فضلاً عن مبانٍ إدارية وسكنية تدعم منظومة العمل وتحتضن العاملين.
أهداف مشروع مستقبل مصر
يسعى المشروع الطموح إلى تعظيم فرص الإنتاج الزراعي لتلبية احتياجات المواطنين بمنتجات ذات جودة فائقة وأسعار تنافسية، في مسعى جاد لسد الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستيراد. يتحقق بذلك الأمن الغذائي الذي يمثل الركيزة الأساسية للاكتفاء الذاتي في السلع الاستراتيجية.
ولا يقتصر طموح المشروع عند هذا الحد، بل يفتح أبوابه واسعة لتوفير قرابة 10 آلاف فرصة عمل مباشرة، وأكثر من 360 ألف فرصة عمل غير مباشرة، مع توقع ازدياد هذه الفرص في المواسم القادمة، مما يعزز من عجلة التنمية، كما يتميز المشروع بسهولة إيصال منتجاته النهائية إلى الأسواق الرئيسية وموانئ التصدير البرية والجوية، مما يفتح آفاقًا أوسع لتصدير المنتجات المصرية.
يرتكز المشروع على الالتزام التام بتوجيهات رئيس الجمهورية، هدفه الأول تحقيق الأمن الغذائي والوصول إلى الاكتفاء الذاتي. كما يعمل بجهد حثيث على مكافحة البطالة من خلال توظيف الكوادر في مجالات متعددة، ليشعر المواطن بحجم الجهود المبذولة ضمن خطة رئيس الجمهورية للنهوض الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.
وينتهج المشروع سياسة المشاركة الفعالة مع المستثمرين الزراعيين الملتزمين، في إطار ضوابط ومحددات تضمن تحقيق أعلى العوائد الاقتصادية من خلال خبرات متخصصة، في سعي دائم لتعظيم الإنتاج وتنمية الموارد.
ويفتح هذا المشروع الوطني آفاقاً واسعةً للعمل والإنتاج، مستهدفاً توفير نحو 10 آلاف فرصة عمل مباشرة، تتجاوز حدود الأرقام إلى التأثير في حياة الأسر والعائلات، ولا يقتصر عطاؤه عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل أكثر من 360 ألف فرصة عمل غير مباشرة، مما يعكس عمق أثره على الاقتصاد الوطني؛ ومع تطور المواسم وتغير احتياجات السوق، تظل التوقعات واعدة بزيادة فرص العمل، مما يعزز من الاستقرار الاجتماعي ويحقق تنمية مستدامة.
ويحرص المشروع على توفير بيئة عمل متكاملة، تُطبَّق فيها أرقى معايير السلامة والصحة المهنية، حفاظاً على سلامة العاملين وتعزيزاً لقيم الأمان، وفي خلفية هذا المشهد الوطني، تبرز وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بدور ريادي، حيث تقدم دعمًا لا محدودًا، يتجسد في نقل الخبرات وتوفير المعرفة، بما يسهم في رفع كفاءة المشروع وتحقيق أهدافه التنموية.
طرق ري أراضي مشروع مستقبل مصر الزراعي
يشهد مشروع الدلتا الجديدة تطبيق أحدث أساليب الري باستخدام نظم تكنولوجية متقدمة، حيث يتم نقل مياه الصرف المعالج عبر ترعة بطول 170 كيلومترًا و17 محطة رفع، وصولًا إلى أكبر محطة معالجة في المنطقة بطاقة 7.5 مليون متر مكعب يوميًا، ما يسهم في تحقيق نقلة نوعية في القطاع الزراعي.
يعتمد المشروع أيضًا على ثلاثة خزانات جوفية رئيسية (الأيوسين، المايوسين، المغرة) الممتدة من وادي النطرون، وتتم إدارة هذه الموارد عبر حفر الآبار بمراعاة المسافات البينية، بهدف الحفاظ على هذه الخزانات من السحب الجائر، بما يتماشى مع معايير التنمية المستدامة التي يتبناها المشروع.
وفي خطوة مستقبلية لزيادة الموارد المائية، يتم العمل على مد ترعة “مستقبل مصر” بطول 41 كيلومترًا، لتوفير 10 ملايين متر مكعب من المياه يوميًا، ما يدعم زراعة 700 ألف فدان إضافية، وتشكل تحلية مياه الصرف الزراعي وإعادة استخدامها أحد أبرز التحديات التقنية التي يواجهها المشروع.
ومن ناحية العمليات الزراعية، تم استصلاح وزراعة 350 ألف فدان باستخدام 2600 جهاز ري محوري مطور. هذه الأراضي تُزرع مرتين سنويًا (صيفًا وشتاءً)، ما يساهم في إنتاج محاصيل ذات جودة عالية تلبي احتياجات الأسواق المحلية والدولية.
الاستثمار الزراعي في مشروع مستقبل مصر
يتربع مشروع مستقبل مصر في موقع استراتيجي يجعله قبلة للاستثمار الزراعي، حيث يقع على محور الضبعة، قرب مطاري سفنكس وبرج العرب، وعلى مقربة من مينائي الدخيلة والإسكندرية، ليشكل بذلك صلة وصل بين مراكز النقل الحيوية ومصادر الإنتاج.
بخطى واثقة نحو المستقبل، يتبنى المشروع نظام الشراكة مع المستثمرين الزراعيين الجادين، وفق ضوابط صارمة وخبرات متخصصة تعزز من اقتصاديات تعظيم العائد، ليصبح نموذجًا فريدًا للتكامل بين الاستثمار والتنمية.
ويمثل المشروع ذروة الابتكار في أساليب إدارة المشروعات القومية؛ حيث يعتمد على نظام موجَّه بالوقت لخفض التكاليف وتحقيق أعلى مردود اقتصادي. وبالتعاون الوثيق مع وزارة الزراعة، سيتبنى المشروع برامج تدريبية مخصصة لأوائل خريجي كليتي الزراعة والهندسة، إلى جانب تثقيف الكوادر البشرية، تمهيدًا لإثراء عجلة الإنتاج الزراعي وتعظيم الاستفادة من الخبرات الوطنية، ويتناغم هذا الجهد مع خطة الدولة لإنجاز مشروع الدلتا الجديدة بحلول عام 2023، فاتحًا بذلك آفاقًا جديدة للتنمية الشاملة.
وفي إطار دعم الاستثمار بمشروع مستقبل مصر، تأسس جهاز “مستقبل مصر للتنمية المستدامة” بموجب القرار الرئاسي رقم 591 لسنة 2022، في خطوة هامة نحو تحقيق رؤية مصر الحديثة والمتجددة، وكان الجهاز قد بدأ نشاطه تحت إشراف القوات الجوية المصرية، بهدف المساهمة الفعالة في استصلاح الأراضي الصحراوية التي لطالما كانت عصية على الاستغلال، ولكنها الآن تجسد أملًا واعدًا للأجيال القادمة.
الجهاز يعمل على استصلاح الأراضي الشاسعة في الصحراء الغربية والشرقية، من شمال مصر إلى جنوبها، ليحقق حلمًا مشتركًا مع كيانات حكومية أخرى رائدة مثل: “شركة تنمية الريف المصري الجديد”، “الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي”، و”الشركة الوطنية للزراعات المحمية”.
وبدأ الجهاز بمشروعات استصلاح أراضٍ صغيرة، مستخدمًا أساليب الري الحديث وتكنولوجيا الزراعات الدقيقة، وبمرور الوقت، شهدت مشروعات الجهاز قفزات نوعية، ليصل حجم الأراضي المستصلحة إلى ما يقارب 800 ألف فدان بنهاية عام 2023، وهو ما يعكس تضافر الجهود والالتزام بتحقيق الطموحات.
وقد توسعت مشروعات الجهاز لتشمل مناطق عدة، بدءًا من دلتا مصر الجديدة وصولاً إلى مناطق المنيا، بني سويف، الفيوم، أسوان، الداخلة والعوينات، لتتحقق الرؤية الطموحة باستصلاح 4.5 مليون فدان بحلول عام 2027.
ويعتمد الجهاز في استراتيجياته الزراعية على أنظمة ري حديثة، مثل الري المحوري والتقطير، كما يواصل إجراء الأبحاث والتجارب في مجالات التقاوي والأسمدة والري للوصول إلى أعلى معدلات الإنتاج.
يواصل الجهاز تنفيذ مشروعات التصنيع الزراعي ضمن استراتيجية التكامل مع الزراعة، من خلال إنشاء مناطق صناعية متعددة تشمل مصانع لإنتاج العلف والبصل والثوم المجفف والمركزات، والعديد من المنتجات الزراعية التي تلبي احتياجات السوق المحلي والدولي، ويسعى الجهاز إلى التوسع في مشروعات التخزين الاستراتيجي، مثل صوامع تخزين الغلال والثلاجات التي تضمن الحفاظ على المواد الخام بأعلى مستويات الجودة.
ويتوسع جهاز “مستقبل مصر” في مشروعات الثروة الحيوانية، ويشمل مزارع للتسمين والإنتاج الحيواني، بما يسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم وتلبية احتياجات السوق المحلي.
على صعيد آخر، يسعى الجهاز إلى تطوير العمران في الدلتا الجديدة عبر مشروعات بيئية مستدامة تعتمد على التوسع في أنشطة مواجهة تغير المناخ، وتحقيق التنمية العمرانية الخضراء.
وذلك إلى جانب الشراكات الدولية المبتكرة التي يعقدها مع دول مثل الصين وروسيا، لتطوير مجالات التصنيع الغذائي والزراعة.
بداية تحقيق الحلم
بدأت خطوات التنمية على أرض “مستقبل مصر” بإنشاء منطقة صناعية واعدة، تنقسم إلى ثلاث مراحل، تُراعي أولويات التصنيع وتُجسد رؤية طموحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي ودفع عجلة الاقتصاد الوطني.
المرحلة الأولى وقد احتوت على مشاريع استراتيجية تهدف إلى تطوير منظومة الإنتاج الزراعي والحفاظ على جودة المحاصيل، وشملت: إنشاء ثلاجات لحفظ البطاطس بسعة تصل إلى 80 ألف طن، وتأسيس محطات متخصصة لفرز وتعبئة المنتجات الزراعية، وبناء صوامع ضخمة لتخزين الغلال بسعة 20 ألف طن، وعمل معامل لتحليل التربة وتشخيص أمراض النباتات.
المرحلة الثانية والتي تستهدف توسيع نطاق التصنيع الزراعي عبر إنشاء مصانع متنوعة، منها: أنفاق متطورة لتجميد الخضروات والفواكه، ومصانع لإنتاج السناكس والبصل والثوم المجفف،ومنشآت لتعبئة وتغليف البقوليات وتكرير الزيوت، ومزارع متكاملة لتربية الأغنام والماشية.
المرحلة الثالثة وتتضمن إنشاء مصانع حيوية مثل مصنع لإنتاج السكر، ومصنع لاستخلاص الزيوت، ومحطة متخصصة لفرز وتعبئة البرتقال.
وقبل أشهر وتحديدًا في مايو 2024م افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي المرحلة الأولى من موسم الحصاد لمشروع “مستقبل مصر” للتنمية المستدامة، مشيرًا إلى دور القطاع الخاص في تحقيق التنمية بفضل كفاءته وقدرته على مواجهة التحديات.
وأكد الرئيس أهمية الاستخدام الأمثل للمياه، مشددًا على ضرورة تطوير نظم الري والزراعة لتوفير كل قطرة ماء واستثمارها في خدمة القطاع الزراعي، كما أشار إلى أن مياه الصرف المُعالجة تُستخدم بكفاءة في زراعة المحاصيل الملائمة.
واختتم الرئيس كلمته بالتأكيد على أن الإنفاق في مشروع “مستقبل مصر” يُعد استثمارًا ضروريًا لتحقيق أهداف التنمية الزراعية، مُوضحًا أن شبكة الطرق التي أُنشئت حديثًا تُعزز من قدرة المشروع على تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
وفي المجمل يُعتبر المشروع الذي يتولى إشرافه جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة بمثابة قاطرةٍ تنطلق بها مصر نحو آفاقٍ جديدة في مجال الزراعة، ويُعدُّ بمثابة البذرة الأولى لمشروع الدلتا الجديدة الذي يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال