كرة القدم والسياسة (2).. مين؟ موسوليني!
الكثير من المؤرخين شككوا في استحقاق إيطاليا الفوز بكأس العالم 1934 الذي استضافته على أرضها إبان حكم الديكتاتور بينتو موسوليني، أو فوز إنجلترا بكأس العالم 1966 في نسخة شهدت جدلا تحكيميا واسعا، أو حتى الأرجنتين 1978، تلك البطولة التي لعبت تحت وطأة ديكتاتورية دموية، وهي حكايات نرويها لاحقا، لكن دلوقتي خلونا في إيطاليا.
هل من الصدفة أن تفوز الدولة المضيّفة بنصف بطولات كأس العالم التي احتضنتها قبل انتشار البث التلفزيوني المباشر في كل أرجاء العالم مطلع ثمانينات القرن العشرين؟ أو أن يبلغ أصحاب الأرض الدور النهائي في نسختين خلال هذه الفترة؟.
لطالما ارتبطت كرة القدم بالسياسة منذ نشأتها الأولى، ما أشرت إليه في المقال الأول من تلك السلسلة: كرة القدم والسياسة (1).. نبتدي منين الحكاية؟
منذ إسبانيا 1982 لم تستطع أي دولة مضيفة الفوز بالمونديال سوى فرنسا 1998، ولم تُسمع هذه المرة أي أصوات تشكيك، فالمنتخب الفرنسي كان قويا بما يكفي للفوز بالكأس. وإذا وضعنا في الاعتبار إقصاء زين الدين زيدان أمام السعودية في الدور الأول وطرد لوران بلان أمام كرواتيا، ومارسيل ديساييه أمام البرازيل في المباراة النهائية، يصبح من الصعب أن تشير إلى أصابع سياسية خفية يمكن أن تكون ساهمت في تسهيل مهمة أصحاب الأرض.
بكل تأكيد لم تنفصل السياسة عن الرياضة، ولم تختف التصرفات المشبوهة من عالم الكرة، لكن مع ازدهار البث التلفزيوني وانتشار الإنترنت أصبح من الصعب أن تختفي الحقائق أو أن تُجمّل.
إيطاليا 1934
عجزت النسخة الثانية من كأس العالم – الأولى التي تنظمها أوروبا – عن التحرر من المناخ السياسي الذي أحاط بالقارة العجوز في تلك الفترة. إذ ضغط نظام بينتو موسوليني الاستبدادي على فيفا من أجل أن تفوز إيطاليا بتنظيم المونديال، واستخدم هذا النظام طرقا “ملتوية” كي لا يتعثر المنتخب الإيطالي في طريقه إلى الكأس الذهبية.
لا أعرف لماذا تخيلت جول ريميه (1873 – 1956)، صاحب فكرة المونديال ورئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم في ذلك الوقت، حين دلف إلى مكتبه فوجد رئيس الحكومة الإيطالية في انتظاره للضغط عليه من أجل فوز إيطاليا بشرف تنظيم المونديال. اندهش ريميه وجَف حلقه من المفاجأة متسائلا على طريقة عادل إمام: “مين؟ موسوليني!”.
لاحقا بعد الاتفاق وحصول إيطاليا على موافقة فيفا، صرح جول ريميه في 13 مايو 1933 أن “كأس العالم ستصبح إنجازا ساهمت فيه اللجنة المنظمة التي أظهرت نشاطا تصعب معادلته”، فكما تعرف يا عزيزي أن “الأهم من الشغل ضبط الشغل“.
نظام موسوليني الفاشي كان يرغب في تتويج المنتخب الإيطالي بكأس العالم لتجميل وجهه القبيح وخدمة القضية الفاشية التي كانت تعلي من شأن القومية فوق المعتقدات السياسية الأخرى. لتحقيق ذلك؛ فقبيل كأس العالم أجبر لاعبو المنتخب الإيطالي على الانضمام إلى الحزب القومي الفاشي، بل إنهم تلقوا تهديدات بالقتل إن لم يتوجوا باللقب! وزيادة في التحفيز وضع إلى جوار كأس “جول ريميه” لقب إضافي آخر هو “كأس الدوتشي”، و”الدوتشي” أعزك الله هو لقب موسوليني، وهو لقب مشتق من الكلمة اللاتينية “دوكس” أو “دوق”.
الضغط للجميع!
لم يكن لاعبو إيطاليا وحدهم الذين تعرضوا لضغوط سياسية في مونديال 1934، فكتب تاريخ كرة القدم التي نشرت في أمريكا الجنوبية، تحدثت عن التحيات “النازية” و”الفاشية” اتي أداها منتخبا ألمانيا وإيطاليا أثناء عزف النشيد الوطني للبلدين قبل المباريات. ونفذت جميع الفرق “التحية الرومانية” التي تتمثل في مد الذراع إلى الأمام باتجاه الأعلى، وهي التحية التي كان يستخدمها كل من موسوليني وهتلر.
صحف عديدة أبرزت توجه منتخبي الأرجنتين والسويد في لقاءهما معا في بولونيا، إلى المنصة الرسمية لإرسال التحية إلى المسئولين، بمد الذراع ورفعه للأعلى. فيما ذكرت جريدة “لاناثيون” الأرجنتينية أن بعثة “الألبيسيليستي” أرسلت إثر وصولها إلى ميناء نابولي قبيل البطولة، تلغرافا يحمل التحية للسيد بينتو موسوليني رئيس الحكومة، قبل أن تتوجه البعثة إلى مدينة فورلي لوضع أكاليل الزهور مقبرة أبوي موسوليني.
مقاطعة سياسية
لأسباب سياسية، قاطعت إنجلترا وأوروجواي النسخة الثانية من المونديال، فالأولى كانت على خلاف سياسي مع ديكتاتورية موسوليني، واستمرت في إدارة ظهرها للبطولة حتى عادت المنافسات في 1950 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أما أوروجواي فرأت أن ترد الصاع للإيطاليين الذين اعتذروا عن المشاركة في النسخة الأولى التي استضافتها مونتيفيديو بحجة بُعد المسافة، فيما قيل إن لاعبي أوروجواي فضّلوا المكوث في بلادهم للعب المباريات المحلية المربحة ماليا على شرف تمثيل المنتخب السماوي. وأيا كان السبب الذي دفع أوروجواي للغياب عن المونديال، فهم المنتخب الوحيد في تاريخ كأس العالم إلى الآن الذي لم يحظ بشرف الدفاع عن لقبه.
التأهل بالاحتيال
نظام المشاركة في كأس العالم تلك الفترة، أجبر منتخب الدولة المنظمة على اللعب في التصفيات لانتزاع بطاقة التأهل، وتعتبر إيطاليا هي الدولة المنظمة الوحيدة التي اضطرت لخوض غمار التصفيات من أجل الحصول على مقعد مشارك في المونديال.
في 25 مارس 1934 واجه المنتخب الإيطالي نظيره اليوناني في ميلانو واستطاع الفوز بأربعة أهداف نظيفة، لكن الفوز السهل لم يكن نظيفا بأي حال. الأزوري ضم بين صفوفه ثلاثة لاعبين لم تكن لوائح فيفا تسمح لهم بارتداء القميص الأزرق. حينها كان يجب على اللاعب الذي يرغب في الانضمام لمنتخب بلد لا يحمل جنسيتها الأم، أن يقيم مدة لا تقل عن ثلاث سنوات في وطنه الجديد، وأن تمر نفس الفترة على آخر مباراة لعبها بقميص بلده الأم.
الشروط السابقة لم تنطبق على الثنائي الأرجنتيني لويس فيلبي مونتي وإنريكي جوايتا، ولم تنطبق كذلك على البرازيلي أمبيلوكيو ماركيس. غير أن فيفا الذي أظهر لطفا سمح بمشاركة الثلاثي بالمشاركة مع المنتخب الإيطالي، لم يتعامل بذات الوجه مع رومانيا التي أرادت إشراك لوليو بيركاتي بين صفوف منتخبها.
وقتها أصدر الاتحاد الدولي لكرة القدم بيانا أشار فيه إلى أن بيركاتي الذي قد يكون من رعايا رومانيا وفقا لمعاهدة تريانون، لا يمكنه تمثيل المنتخب الروماني لأنه مثل المجر قبل أقل من ثلاث سنوات وهي المدة التي تنص عليها اللوائح!
استثمار عقاري و”سماح النوبة”!
جراب نظام موسوليني لازال ممتلئا، فمباراة العودة أمام المنتخب اليوناني، التي كان من المقرر أن تحتضنها أثينا، لم تلعب من الأساس. ما أشيع وقتها أن اليونانيين فضّلوا عدم خوض اللقاء حتى لا يتعرض لإهانة جديدة على ملعبه، بعد الخسارة الكبيرة التي تعرض لها في ميلانو. لكن بعد ستين عاما على هذه الواقعة، تبين أن الاتحاد اليوناني ذو القدرات المالية المحدودة، قبل عرضا إيطاليا بشراء منزل من طابقين في العاصمة أثينا مقابل إلغاء المباراة.
خدعة أخرى تخرج من جراب الحاوي، فقبل عدة أشهر من المونديال قرر الاتحاد الإيطالي لكرة القدم العفو عن اللاعب لويجي أليماندي بطلب من مدرب المنتخب فيتوريو بوتسو.
أليماندي كان قد عوقب بالإيقاف مدى الحياة إثر ثبوت تورطه في رشوة قدرها خمسون ألف ليرة، تقاضها من نادي تورينو ليسهل فوز الأخير، وهي الفضيحة التي انتهت بسحب لقب الدوري من تورينو وإيقاف أليماندي، لكن لأن الغاية تبرر الوسيلة، تم العفو عن أليماندي ليشارك في التصفيات وكل مباريات المونديال.
وجه ديمقراطي
أخبرتك في سطور سابقة أن موسوليني رغب في تجميل وجه نظامه القبيح باستضافة إيطاليا المونديال ثم فوزها به. وكأي زعيم “ملو هدومه” استُقبل موسوليني عند وصوله ملعب “ناتسيونالي” في روما لحضور مباراة إيطاليا وأمريكا في 27 مايو استقبال الفاتحين، وعزف موظفو الحكومة والإداريون الموالون له نغمات المديح والتفخيم، بعد أن جهزوا له مساحة مميزة للجلوس في مقصورة الملعب، غير أن موسوليني الزاهد في المديح والترف، رفض التمييز، وأبى أن يدخل ملعب المباراة دون شراء التذاكر له ولأولاده، فذهب إلى شباك التذاكر ليشتريها بنفسه.
أعرف أنك عزيزي القارئ تريد الآن أن تعرف ماذا جرى في مشوار إيطاليا بالمونديال، لكنها قصص تحتاج مساحة أخرى، ففضلا انتظر الحلقة الثالثة من سلسلة “الكرة والسياسة”.. كفاية عليك كدا النهاردة.