رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
89   مشاهدة  

فنّ الاستهلاك بين القيم الإسلامية والنظام الاقتصادي المعاصر

الاستهلاك
  • د. أحمد حسن عبد الهادي ـ دكتور المالية العامة والتشريعات الإقتصادية والضريبية - زميل الجمعية العلمية للتشريع الضريبي



في عصر تتسارع فيه عجلة الإنتاج وتزدهر فيه ثقافة السوق المفتوحة، أضحى الاستهلاك أحد أبرز ملامح الحياة اليومية. ومع تطور النظم الاقتصادية الحديثة، لا سيما الرأسمالية التي تقوم على مبدأ العرض والطلب، ارتبط الاستهلاك ارتباطًا وثيقًا بالربح والترويج والمنافسة. لكن، هل يتوافق هذا النمط الاستهلاكي الجارف مع القيم الإسلامية؟ وهل ما نراه اليوم من سلوك استهلاكي مفرط يعكس فقه الإسلام في الإنفاق والتدبير؟

الاستهلاك في الرؤية الإسلامية

تقوم القيم الإسلامية على التوازن والاعتدال في جميع مناحي الحياة، ومنها الاستهلاك. فالإسلام لا يحرم الاستمتاع بخيرات الدنيا، بل يشجع على الأخذ منها دون إسراف أو تبذير. يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
“وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف: 31). كما يحث الإسلام على القناعة، ويربّي أتباعه على الزهد دون حرمان، والتدبير دون شح، فيجمع بين الأخلاق والسلوك المالي المسؤول. ويعدّ الإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والإنفاق على الأهل من أعظم أبواب البرّ، ولكن في إطار “فنّ التوازن”.

النظام الاقتصادي الحديث: السوق يحكم

في المقابل، يروّج النظام الاقتصادي الرأسمالي لفكرة “الاستهلاك المحفّز” أو “الطلب المصنّع”، حيث تدفع الحملات الإعلانية الممنهجة الناس لشراء ما قد لا يحتاجونه فعليًا، بدافع الرغبة أو الموضة أو التفاخر. والنتيجة: تضخّم في الإنفاق، وزيادة في الديون، وتراجع في الوعي الاستهلاكي، وتهديد للاستقرار الأسري والاجتماعي.

وقد أفرز هذا النمط استهلاكًا مظهريًا يستند إلى صورة الفرد في المجتمع، لا إلى حاجاته الحقيقية. وبهذا المعنى، تتحوّل الحاجة إلى رغبة، وتُنتزع القناعة لتحل محلها المقارنة واللهاث.

تحليل فريدمان وسلوك المستهلك

من أبرز المفكرين الاقتصاديين الذين تناولوا الاستهلاك من زاوية تحليلية هو الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وقد قدم فريدمان “نظرية الدخل الدائم” (Permanent Income Hypothesis) التي تفسر سلوك الأفراد في الاستهلاك على أساس توقعاتهم لمستوى دخلهم المستقبلي، لا فقط دخلهم الحالي.
وفقًا لفريدمان، فإن الأفراد لا ينفقون بناءً على ما يكسبونه في الوقت الراهن فقط، بل يخططون لإنفاقهم تبعًا لما يتوقعونه من دخل مستقر ودائم على المدى الطويل. وبالتالي، فإن التغيرات المؤقتة في الدخل لا تؤثر كثيرًا في نمط الاستهلاك، في حين أن التغيرات الدائمة تفعل ذلك.

هذا الطرح، وإن كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاد الليبرالي، يحمل في طياته ما يشبه الدعوة إلى التوازن والتخطيط، وهي مفاهيم تتقاطع مع القيم الإسلامية في الاقتصاد، خاصة في الدعوة إلى التدبير وعدم التهور في الإنفاق، واستشراف المستقبل برؤية عقلانية.
التصادم أو التكامل؟

بينما تسير الرأسمالية الحديثة نحو تعظيم الأرباح، تسعى القيم الإسلامية إلى تهذيب النفس وتنظيم الرغبات. إلا أن هذا لا يعني بالضرورة وجود تصادم مطلق بين النظامين، بل يمكن تحقيق تكامل إذا ما أُخضع الاقتصاد لقيم إنسانية، تجعل من المال وسيلة لا غاية، ومن الاستهلاك ممارسة مسؤولة لا طقوسًا استعراضية.

لقد بات من الضروري، في عالم يواجه أزمات مالية وبيئية وأخلاقية، أن نستحضر القيم الإسلامية كمنظومة أخلاقية تساهم في تصحيح الانحرافات الاستهلاكية، من خلال:

إقرأ أيضا
مسلسل إش إش

– ترسيخ مفهوم الاستهلاك الواعي.
– تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار لا التبذير.
– دعم الإنتاج المحلي والمستدام.
– تربية الأجيال على مبدأ “الكفاية” لا “المباهاة”.

فى الختام يبنبغى التأكيد على أن فن الاستهلاك مسؤولية فردية وجماعية، حيث أن ضبط سلوك الاستهلاك ليس مهمة دينية فحسب، بل ضرورة حضارية واقتصادية. وإذا كانت القيم الإسلامية تزرع في النفس الرقابة الذاتية، فإن المجتمع الحديث بحاجة ماسة إلى نشر هذه القيم داخل أروقة الاقتصاد والتعليم والإعلام. إننا بحاجة إلى إعادة تعريف معنى “الرفاهية”، لنراها في الكفاف والطمأنينة، لا في الإسراف والقلق. وبذلك نرسم ملامح فنّ الاستهلاك الذي يوازن بين متطلبات الحياة ومبادئ الإيمان.

الكاتب

  • الاستهلاك د. أحمد حسن عبد الهادي

    د. أحمد حسن عبد الهادي ـ دكتور المالية العامة والتشريعات الإقتصادية والضريبية - زميل الجمعية العلمية للتشريع الضريبي






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
3


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان