رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
123   مشاهدة  

#انقذوا_السودان.. عنوان لفشل متعدد الأوجه

#انقذوا_السودان
  • شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



انتشر مؤخرًا هاشتاج #انقذوا_السودان كصرخة يائسة بعد سنتين من حرب عبثية متوحشة، ليس كأداة تنظيمية للمقاومة الداخلية فحسب، بل كدلالة دامغة على عجز الدولة المركزية عن إدارة شؤونها الأساسية.

يعكس الهاشتاج تحول جذري من فكرة “السيادة الوطنية” إلى استغاثة خارجية مفتوحة، حيث يتوسل السودانيون التدخل الدولي لإنقاذ ما تبقى من نسيج اجتماعي ممزق. إنه إعلان صريح بموت “الدولة القادرة”، أو بالأحرى إعلان صريح إن الدولة التي ورثها السودان من الاستعمار البريطاني محض سراب، إذ فشلت على مدار تاريخها الحديث في بناء آليات داخلية للحلول، تاركةً ملايين تحت رحمة الجوع والقتل الجماعي كما يحدث في “الفاشر”.

تصحيح مفاهيم

لكن هذا الصراع ليس مجرد حرب بين “دولة شرعية” متمثلة في الجيش السوداني و”ميليشيا متمردة” كقوات الدعم السريع، كما تحاول السرديات الإعلامية التبسيطية تصويره؛ إنها تصفية حسابات عميقة بين نخب ورثت نظام “الغنيمة” الاقتصادية من عصر “البشير”، الذي وصل للسلطة في 1989 كواجهة لإنقلاب إخواني قاده في الظل الراحل/ حسن الترابي، نخب تحولت تدريجيًا إلى وكلاء لقوى جيوسياسية متنافسة. هذه الثنائية السطحية تخفي انهيار بنيوي عميق؛ الجيش، المثقل بإرث الإسلاميين والشركات الاقتصادية الإقطاعية، يواجه قوة عابرة للحدود مبنية على تجارة الذهب والتجنيد من دول الجوار، في صراع تجاوز الشرعية الدستورية إلى السيطرة على الموارد والحدود.

YouTube player

ليتحول السودان بذلك من “عمق استراتيجي” تاريخي للمنطقة -يربط النيل بقلب أفريقيا- إلى مسرح جيوسياسي واقتصادي، حيث تتقاطع المصالح الدولية لعدد من القوى الإقليمية مع انهيار للنظام السياسي، ما حول الدولة إلى بضاعة قابلة للتجزئة والاستغلال. وهذا التحول ليس مصادفة، بل نتيجة إرث استعماري ونخبوي جعل أي “إنقاذ” قادم مجرد إعادة ترتيب للاصطفافات الخارجية، على حساب وحدة الوطن.

دولة ما بعد الاستعمار

يُعد السودان نموذجًا حيًا لـ”الدولة المصنوعة”، تلك التي رسم المُحتل البريطاني حدودها عام 1899 دون مراعاة للتنوع الإثني والثقافي، محولًا إياها إلى كيان مصطنع يعتمد على هوية مركزية نيلية ضيقة، تُهمِّش الأطراف الجغرافية والاجتماعية.

بعد الاستقلال، 1956، فشلت النخب السودانية في صياغة “عقد اجتماعي” يدمج كل مكوناته، ما أدى إلى سلسلة من الانهيارات المتتالية؛ حرب أهلية انتهت باستقلال الجنوب، 2011، دون حل جذري للمناطق الأخرى.

هذا الفشل لم يكن مصادفة، بل إرثًا استعماريًا يُعيد إنتاج نفسه؛ ففي دارفور، تحول النزاع من صراع موارد إلى إبادة جماعية بسبب عدم دمج الهوية الفوراوية في الدولة المركزية، ما أكد هشاشة الكيان السوداني بأكمله، حيث أصبحت “الدولة” مجرد خريطة على الورق، غير قادرة على الحفاظ على وحدتها الترابية أو الاجتماعية.

إرث البشير وصراع الولاءات

يُمثِّل الجيش السوداني النواة المتعفنة لهذا الإرث، كيان مهترئ بفعل الولاءات الإسلامية من عصر عمر البشير (1989-2019)، حيث تحول من مؤسسة وطنية إلى آلية للتوزيع الإقطاعي للموارد الدولة كـ”غنائم” اقتصادية. تحت حكم البشير، امتلك الجيش شبكة من الشركات الاقتصادية الضخمة، تشمل منظومة الصناعات الدفاعية والمشاريع الزراعية والتجارية، ما جعل قياداته مثل (الجنرال عبد الفتاح البرهان وشمس الدين الكباشي) مرتبطة ارتباطًا عضويًا بنظام الفساد السابق.

لكن في الوقت نفسه هذا لا يعني أن الجيش كتلة صلبة؛ فالمؤسسة تعاني من صراع داخلي حاد بين ضباط يمثلون الإرث الإسلامي الاقتصادي، وضباط آخرين (رتب صغيرة) يستميتون في القتال من أجل الحفاظ على “الخيط الأخير لمؤسسة الدولة المركزية”، بغض النظر عن الأيديولوجيا. هذا التناقض يفضح أن الجيش السوداني لم يفشل في التحول إلى قوة مدنية فحسب، بل فشل في توحيد نفسه على عقيدة وطنية واحدة.

الدعم السريع.. قوة عابرة للقوميات

في المقابل، تبرز قوات الدعم السريع كالمنتج الأكثر فاعلية لسياسة التهميش الحكومية السابقة، التي أنشأتها كميليشيا لقمع التمردات في دارفور، لتَنْقَلْبَ عليها في أبريل 2023 كقوة اقتصادية عابرة للحدود مبنية على الذهب كوقود حربي.

بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) سيطرت الدعم السريع على عدد من مناجم الذهب في السودان، مثل جبل عامر منذ 2017، عبر شركة “الجنيد” التابعة لعائلته، التي تُصْدَر الخام إلى دبي لتوفر بذلك التمويل اللازم لتجنيد المقاتلين من دول الجوار مثل تشاد وليبيا.

ما يجعلها قوة عابرة للقوميات تجمع مقاتلين من جنسيات وخلفيات إثنية متنوعة تحت راية الغنيمة، لتصبح – بحكم تركيبتها البنيوية – أداة مثالية للقوى الإقليمية في تفجير الاستقرار، ويؤكد كيف أن إرث التهميش أنتج وحشًا يتجاوز خالقه.

YouTube player

تآكل “الوطن” لصالح “الغنيمة”

في خضم هذا الانهيار، أصبح المدنيون – الذين أشعلوا ثورة ديسمبر 2018 ضد نظام البشير – رهائن لصراع لا يملكونه، ووقودًا له في الوقت نفسه. القوى المدنية، بما فيها “لجان المقاومة“، ليست محايدة تمامًا كما تُصْوَر؛ إنما هي أقرب لتوصيف “فاعل ممزق” بين خيارين قاتلين: دعم الجيش السوداني كاختيار “أقل سوءًا” بهدف استعادة “الدولة” ثم العمل على إصلاحها، أو الدعوة المفتوحة لتدخل دولي يُخشَى أن يُعِيدَ السودان إلى حضن الاستعمار الجديد.

يكمن الفشل البنيوي لهذه القوى في عدم قدرتها على إنتاج “قيادة بديلة” موحدة قادرة على امتلاك أدوات القوة والتفاوض. هذا التمزق أضعف قدرتها على توحيد الصف، ما حول “الثورة المدنية” من قوة موحدة إلى ضحية للصراعات الطائفية والإقليمية.

أما في دارفور، فإن ما يجري اليوم -خاصة في الفاشر- ليس مجرد امتداد للحرب، بل تفعيل آلي للآلية العنصرية التي أُسِسَت عليها هذه الميليشيا أصلًا، ليُعيد إنتاج صراعات ديموغرافية قديمة بأدوات الحاضر.

تقارير المنظمات الدولية، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”الأمم المتحدة”، توثق انتهاكات مركزة ضد مجموعات إثنية محددة في الفاشر كـ(الزغاوة والفور)، إنطلاقًا من دوافع قبلية واضحة تُعِيدُ إحياءَ إبادة 2003. في بلورة لكيفية تحول “الغنيمة” إلى أداة لإعادة رسم الخريطة الإثنية، حيث يتم تصفية الهامش لصالح سيطرة عابرة للحدود.

YouTube player

مصر والسودان.. نهاية العمق الاستراتيجي

تواجه مصر حدودًا متفجرة مع السودان، حيث أصبح الصراع الحالي تهديدًا مباشرًا لـ”العمق الاستراتيجي” التاريخي الذي يربط بين البلدين عبر مجرى النيل، خاصة مع خطر إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي بأكملها. إذ يُعد الخطر الأكبر، هو تحالف قوات الدعم السريع مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال (بقيادة عبد العزيز آدم الحلو)، والذي أُعلِنَ رسميًا وأصبح “حكومة موازية” في نيالا.

هذا التحالف، والذي يحمل اسم تأسيس، ليس عابرًا؛ إنه يدعم ضمنيًا موقف إثيوبيا في نزاع سد النهضة، حيث يُمْنَعُ الجيش السوداني من التركيز على الحدود الجنوبية، ما يُفَرِّغُ السودان كـ”حاجز طبيعي” أمام الضغوط الإثيوبية، ويُحَوِّلُ النيل إلى ساحة للصراع الإقليمي.

إقرأ أيضا
القطاع الزراعي

تجارة النفوذ

أصبح السودان ساحة تبادل مصالح بين قوى إقليمية ودولية متنافسة لا تسعى إلى الاستقرار، بل إلى الوصول المباشر للموارد مثل الذهب والموانئ، مُحَوِّلَةً الدولة إلى “غنيمة جيوسياسية” يُتَاجَرُ بها. هذا التنافس ليس محايدًا؛ إنه يُطِيلُ الانهيار، لأنه يعكس أهدافًا استراتيجية عميقة: الإمارات تستثمر في الدعم السريع لتأمين وصول مباشر للذهب وتصفية التنافس التجاري التقليدي عبر الخرطوم، وإيران تسعى لإستعادة موطئ قدم على سواحل البحر الأحمر عبر قاعدة بحرية محتملة مقابل دعمها للجيش، أما تركيا فتوازن بين الأطراف لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي، وروسيا المتعطشة للتمدد في أفريقيا، هذا التنافس يحوّل السيادة إلى سلعة تُتَاجَرُ بها على حساب الشعب.

وبالطبع لا يمكن إخراج مصر من المعادلة كطرف مهتم بتأمين حدوده الجنوبية.

YouTube player

اقرأ أيضًا الحكاية أسباب آسياوية للعركة الأفريقية

السودان كحالة عجز وجودي

لكل ما سبق يعد هاشتاج “#انقذوا_السودان” ليس مجرد صرخة استغاثة، بل اعتراف جماعي بأن السيادة السودانية تحولت إلى بضاعة قابلة للتداول في أسواق النفوذ الجيوسياسي.

في النهاية، تكمن مأساة السودان في كونه النموذج الأكثر وضوحًا لـ”الدولة المزيفة” التي تركها المستعمر الأوروبي كخريطة مصطنعة، غير قادرة على الحياة ككيان موحد، وظلت تتصارع على هويتها بين المركز “المستعرب” والهوامش حتى انهارت تمامًا؛ كنتيجة طبيعية لتهميش الكل شديد التنوع الثقافي والعقائدي.

#انقذوا_السودان
غلاف كتاب جدلية المركز والهامش

هذا الانهيار ليس نهاية تاريخية فحسب، بل تجلي لحالة عجز وجودي لوطن لم يُولَد موحدًا، بل بُنيَ على تراكم التهميش والغنيمة. والسودان ليس استثناءً؛ إنه مرآة لكل دول ما بعد الاستعمار؛ خاصة التي لم تعرف شكل الدولة المركزية قبل بداية “عصر الاستعمار الأوروبي”.. فتولى هو ترسيم حدودها كخطوة لتقسيم الغنيمة الاستعمارية قبل الخروج العسكري والأكتفاء بممارسة النفوذ بالمراسلة.

وطن متحقق في وجدان السودانيين ومتشبثين بوجوده أكثر من نخبهم.

الكاتب

  • #انقذوا_السودان رامي يحيى

    شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان