128 مشاهدة
السودان يحترق.. نيران قبلية ووقود دولي

-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
مازال السودان يحترق بنيران صراع مسلح يبدو للوهلة الأولى عبثيا.. لكن في عمقه هو بلورة لواقع أشد عبثية، نحن أمام دولة تتآكل من أطرافها وتفقد تدريجيًا قدرتها على أداء أي وظيفة وجودية. كنتيجة لحالة انهيار مُركب تتداخل فيه الهويات المتقاطعة، والمصالح الإقليمية، والتجاذبات الدولية، لتنتج حالة من الاحتراق الذاتي يصعب احتواؤها بآليات الحل التقليدية، ما ينعكس مباشرة على الأمن الإقليمي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
إن المشهد السوداني الراهن يتركب من ثلاث مكونات كبرى:
- تفكك الدولة المركزية.
- صعود الهويات الفرعية كمنافس سياسي وعسكري.
- تدخلات خارجية متعددة الجنسيات والمستويات والأهداف.
لتتحول الأزمة إلى ما يشبه اختبارًا قاريًا وإقليميًا، تتقاطع عنده حسابات القوى، وتتعمق فيه مأساة المدنيين.
وفي ظل هذا التعقيد، تصبح بيانات المنظمات الدولية مثل تلك الصادرة عن IOM، أو بيانات G7، ضرورية لفهم حجم المخاطر والتنبؤ بمسارات الأزمة، لكنها ليست أدوات فعالة لتغييره. فهي تُظهر حجم الكارثة أكثر مما تقدم حلولًا لها، وتكشف فجوة واسعة بين الإدراك الدولي والقدرة الفعلية على التدخل..

السياق الإقليمي والدولي
رغم أن الحرب في السودان تبدو كصراع سوداني-سوداني له جذوره الثقافية والسياسية التاريخية، إلا إن سؤال: “لماذا السودان يحترق؟” لا يمكن الإجابة عنه بمعزل عن محيطها الإقليمي والدولي. فالبلاد تقع على مفترق استراتيجي يربط إقليمَّي شمال إفريقيا والقرن الإفريقي بالإضافة إلى ساحل كبير ممتد على البحر الأحمر، وكذلك تمتلك حدود برية مباشرة مع دول تواجه بدورها تحديات أمنية وسياسية معقدة.
ما يحول السودان إلى ساحة تقاطع مصالح أي تصعيد بها تكون له انعكاسات مباشرة على الاستقرار الإقليمي. خاصة بالنسبة لحوض البحر الأحمر، نظرًا لأهمية الممر البحري للتجارة العالمية والنقل العسكري، ولارتباطه بمصالح دول كبرى.
فيمكن النظر إلى الأزمة من جانبين متصلين على صعيد تبادل المصالح؛ جانب محلي صرف وهو الصراع بين “دولة 56” الممزقة والهويات الفرعية المتقاطعة. وجانب دولي صرف متمثل في أصحاب المصالح المتنوعة والمتباينة من دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وتشاد، أو لاعبين إقليميين مثل تركيا وإيران وبعض دول الخليج، وقوى عالمية مثل أمريكا وروسيا والصين.
موقف مُعقد يضع الشعب السوداني في قلب تنافس القوى الإقليمية والأثنية والسياسية على النفوذ والموارد، ما يقلل من فرص وجود الإرادة السياسية لتفعيل أي تدخل دولي أو إقليمي يوقف نزيف الدم السوداني.
كما إن أزمات إقليمية أخرى في القارة، مثل النزاع الإثيوبي في أقليم التيقراي، وعدم الاستقرار في دول الساحل بالإضافة للتوتر المستمر في ملف مياه النيل، تشكل مجتمعة سياقًا موازيًا يعزز من هشاشة الدولة السودانية. وهذه الأزمات لا تتفاعل مع السودان فقط، بل تؤثر أيضًا على حركة الاقتصاد والهجرة والنفوذ السياسي في الإقليم بشكل عام، ما يجعل الأزمة السودانية جزءً من شبكة أزمات أفريقية مترابطة.
بهذا الإطار، تصبح متابعة التحركات الدولية وتحذيرات المنظمات الإنسانية ضرورة لفهم حجم المخاطر. فالاجتماعات الدورية لمجموعة G7 والبيانات الصادرة عن منظمة IOM، على سبيل المثال، تتيح قراءة أولية للمعايير الدولية تجاه السودان، وتظهر مدى محدودية قدرة التأثير المباشر على الأرض.

السودان يحترق داخليًا
إن السودان يحترق بشكل مأساوي؛ الدولة التي رسمها المحتل البريطاني كأحد أهم مناطق نفوذه في أفريقيا تحترق بنيران تناقضاتها البنيوية، المتمثلة في الدمج القسري لمجموعة شعوب لا يجمعها رابط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي ترتكن عليه هذه الوحدة السياسية؛ فاتخذت من المصطلح العربي العنصري لتعريف سكان أفريقيا اسمًا لها.. “السودان”.
تنوع ثقافي وديني وأثني تم تجميعه بشكل عشوائي في دولة تناوب على حكمها أنظمة غالبيتها ذات توجهات عروبية وإسلامية كارهة ومعادية للتنوع بطبيعة تركيبتها القومية والدينية المذهبية، تركيبة حرجة عاشت تجربة سياسية شكلت جذوة هذه النيران، التي تغذيها شبكة مصالح إقليمية ودولية.
من جانبهم يبقى السكان المدنيون هم الأكثر تضررًا؛ فالنزوح الداخلي يتسارع بشكل مطرد بالإضافة إلى موجات جديدة من اللاجئين الباحثين عن مناطق أمانة. تحذر تقارير IOM الأخيرة من تفاقم الأزمة الإنسانية، مع مخاطر انتشار المجاعة ونقص مياه الشرب وانهيار الخدمات الأساسية تماما؛ تحذيرات تشي أن الأزمة بعد تجاوزها الحد السياسي -مع بداية الحرب- وصلت الآن إلى حد التهديد الوجودي للمدنيين هناك.
اقرأ أيضا انقذوا السودان.. عنوان لفشل متعدد الأوجه
بالإضافة إلى ذلك فتفاعلات الهويات المحلية، الأثنية والمناطقية والسياسية، تزيد من تعقيد الصراع. حيث المناطق التي لطالما كانت هامشية في نفوذ الدولة تصبح اليوم مناطق نفوذ فعلي للقوى المسلحة، مثل دارفور كمعقل للدعم السريع وكردفان والنيل الأزرق كمناطق نفوذ لحليفها الجديد الحركة الشعبية – شمال، ما يعكس حالة الدولة الممزقة ويضعف قدرة حكومتها على فرض القانون والنظام.
في هذا السياق، يصبح التدخل الإنساني الدولي ضرورة ملحة، لكنه يواجه تحديات عدة؛ على رأسها عدم القدرة على الوصول لمناطق الصراع، بالإضافة إلى تعقيدات التفاوض بين القوى المتنازعة، والمخاطر الأمنية المتزايدة للفرق الإنسانية. وجميع هذه العوامل تشير إلى أن السودان يواجه أزمة متعددة الأبعاد، تتطلب تحليلًا دقيقًا ليس فقط على مستوى النزاع العسكري، بل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والإنساني.

المواقف الدولية
جاءت أحدث التطورات الدولية الخاصة بالسودان في اجتماع وزراء خارجية مجموعة G7 في كندا، حيث أصدرت الدول السبع بيان بشأن السودان؛ داعية إلى التهدئة الفورية واحترام حقوق المدنيين، ومؤكدين على أهمية إيجاد حل سياسي شامل لتجنب تفاقم الأزمة الإنسانية.
رغم هذه التحذيرات، يُظهِر تحليل واقع القوة الدولية أن القدرة على التدخل المباشر محدودة. فالسودان -كما أسلفنا- ليس مجرد ساحة نزاع داخلي، بل تقاطع مصالح إقليمية ودولية متشابكة، تشمل مصر وإثيوبيا والإمارات وروسيا وأمريكا وحتى تركيا وإيران. تعقيدات جعلت أي تحرك دولي محفوفًا بالصعوبات، إذ يمكن أن يؤدي أي تدخل محدود إلى تحولات غير متوقعة في موازين القوى المحلية أو تعميق الانقسامات الإقليمية.
أما البيانات الدولية والتحذيرات الإنسانية، مثل هذه الصادرة حديثًا عن IOM، تمثل مؤشرًا على إدراك المجتمع الدولي لحجم الأزمة، لكنها تظهر فجوة واضحة بين الشعارات والقدرة على التنفيذ. فجوة تتجلى في استمرار القتال على الأرض، واتساع دائرة النزوح، وتفاقم معاناة المدنيين، ما يعكس أن التدخل الدولي، مهما كان حادًا في التصريحات، يبقى غير كاف لمعالجة الأزمة على المدى القصير أو المتوسط.
علاوة على ذلك، تُظهر هذه المواقف الدولية كيف يمكن للانقسامات المحلية تحدى أي استراتيجية خارجية، ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا من مجرد نزاع مسلح أو أزمة إنسانية عابرة.. والحلول التقليدية صعبة التطبيق.

سيناريوهات مستقبلية
مع استمرار الصراع تبدو مسارات الأزمة السودانية متعددة ومتشعبة ومعقدة، وتعتمد على التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية معًا. ما يجعل السيناريو الأكثر احتمالًا في المدى القصير هو استمرار القتال في المدن الكبرى والمناطق الحدودية، مع تحولات مستمرة في مناطق النفوذ التي تسيطر عليها الفصائل المختلفة، فيزيد من هشاشة الدولة ويعمّق الأزمة الإنسانية.
أما على المستوى الإقليمي، تظل التفاعلات المعقدة بين مصر وإثيوبيا ودول الخليج مؤثرة بشكل مباشر على تطورات الصراع، سواء عبر دعم البعض لفصائل معينة أو حرص البعض على أمنه ومصالحه الاستراتيجيين، أو عبر فرض الجميع لضغوط دبلوماسية قدر استطاعته. في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي الاستقطاب الدولي بين القوى الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة إلى مزيد من تعقيد فرص الحل السياسي، إذ تصبح مصالح الدول الخارجية عاملًا يحد من قدرة الأطراف المحلية على التوصل إلى تسوية؛ كنتيجة لعدم توفر ضغط دولي حاسم على الأطراف المحلية أو القوى الإقليمية المتداخلة بشكل مباشر أو غير مباشر.
لذا يبدو أن الأزمة ستستمر مع احتمال أن تتبلور بعض مناطق النفوذ ككيانات شبه مستقلة، تعكس حالة الدولة الممزقة على الأرض. وهذا لا يعني بالضرورة تقسيم رسمي للبلاد، لكنه يشير إلى تحول فعلي للسلطة خارج المؤسسات الرسمية؛ كما هو حال المناطق الواقعة الواقعة تحت نفوذ الحركة الشعبية – شمال، والتي تتخذ من “كاودا” عاصمة لها منذ قرابة الثلاث عقود.
في هذا السياق، يبقى دور المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية حاسمًا للتخفيف من حدة الأزمة، خاصة فيما يتعلق بالنزوح الداخلي ومخاطر المجاعة وانتشار الأمراض. غير أن قدرتها محدودة ومرتبطة بالوصول الأمني والسياسي إلى المناطق الساخنة، ما يعكس الفجوة المستمرة بين الحاجة الإنسانية والقدرة على الاستجابة الفعلية.

الختام
إن الأزمة السودانية تمثل اختبارًا صارمًا لهشاشة الدولة وقدرة المؤسسات على الصمود أمام الصراعات الداخلية والهويات المتقاطعة. فاستمرار القتال بالتوازي مع تحركات القوى الإقليمية والدولية المحدودة، يزيد من تعقيد الموقف وصعوبة الوصول لحل سياسي من جهة مع استحالة تحقيق أي طرف لنصر عسكري حاسم من ناحية أخرى. ما يضاعف المخاطر الإنسانية المتمثلة في النزوح المتسارع، وتدهور الخدمات الأساسية، وانهيار البنية التحتية، أمور تجعل الأزمة تتجاوز كونها صراع مسلح، لتصبح حالة تحلل وجودي للدولة والبشر على حد سواء.
في ضوء هذه المتغيرات، تبقى مراقبة تطورات السودان ضرورية لفهم حجم التحديات في إفريقيا، ومدى استعداد المجتمع الدولي للتعامل مع أزمة دولة مزقتها الانقسامات الداخلية وتقاطعت فيها الهويات والسلطات.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ما هو انطباعك؟








