الإنسان وجسمه
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
على مرّ التاريخ أبدع الإنسان تماثيل ورسومات لأجساد بشرية عريانة، والعُري رمز لجوانب متنوعة ومختلفة من الإنسان زي الجمال والهشاشة والعار والسلطة بل وإشارة للألوهية أو القداسة أحيان أخرى، ده غير الاستخدام السطحي والمباشر للتعبير عن الجنس أو استهداف الإثارة الجنسية.
في اليونان القديمة نحتوا تماثيل لأجسام أبطالهم عرايا بهدف إظهار قوّتهم الجسدية. في الفنّ اليوناني، المحارب الميّت عادة كان يترسم أو يتنحت عريان، العُمّال كمان تم تصويرهم عراة، عشان يبينوا عضلاتهم والتأكيد على الجهد الذي يبذلونه. والآلهة والإلهات كانوا أيضا يُرسموا عراة بهدف إثبات ألوهيّتهم.
التصوير العاري في الزمن ده ماكنش مقتصر على الحضارة اليونانية فقط، كان منتشر في كل أنحاء العالم، في قارتنا السوداء ظهر في وادي النيل من خلال تماثيل وبرديات زي تماثيل “بس” -إله المسخرة- أو بردية تورين الجنسية وغيرهم من التماثيل والرسومات اللي صورت البشر أو الآلهة عرايا.
شهدت آسيا حضارات عريقة زي بين النهرين والحضارة الصينية وغيرهم، كلهم احتفوا بالجسد الإنساني وصوروه “بالرسم أو النحت”، للتعبير عن حاجات كتير مش مقتصرة على الإيحاء الجنسي.
لو عدينا المحيط الأطلنطي ووصلنا لحضارات (المايا، الأزتيك، الإنكا) في المكسيك ودول حوض الأمازون هنلاقي نماذج متنوعة تختلف في المدارس الفنية وفي الأغراض والمدلولات الثقافية لكن تتفق في التصوير العاري، فالجسد الإنسانيّ أستمر كموضوع مفضّل للفنّانين بسبب جماله وما تم تحميله من معني.
جاء تبني المسيحية من قبل الإمبراطورية الرومانية وإعلانها دين الدولة، في عهد قسطنطين الأول، ليفتح الطريق أمام تحولات نوعية في فن التصوير، حيث كانت القوانيين الكنسية متشددة جدًا في التعامل مع الكتاب المقدس، وبتحصر اقتناءه على نفسها والتعامل معاه على رجال الدين، فماكنش حد من عوام المؤمنين ينفع يمتلك نسخة بل ممنوع عليهم حتى لمس نسخة من النسخ القليلة اللي في الكنيسة.
فظهرت فكرة إنجيل الفقراء، وهي باختصار تحويل القصص الدينية الواردة في الكتاب المقدس إلى رسومات على جدران الكنايس، بحيث يقدر المُصلين يتفرجوا عليها بالترتيب فيعرفوا القصة زي ما مكتوبة بالظبط، نقدر نقول كده “كوميكس” مقدس أو “استوري بورد” كنسي.
فأصبح من الحتمي رسم تفاصيل زي قصة طرد آدم وحوّاء من جنة عدن، اللي كانوا عايشين فيها عرايا، كمان المسيح نفسه أترسم عريان على الصليب، بهدف إظهار معاناة الإنسان الجسدية. كانت سطوة الرقابة مقتصرة على منع رسم الأعضاء التناسلية.
لكن مع بداية عصر النهضة تجرأ فنّانين زي مايكل أنجلو على تبنّي العُري الواضح وإعادة تصوير الأعضاء المخفية، كتكريم للأعمال الفنّية والتصويرية العظيمة الموروثة من عصور الإغريق والرومان، وإن كان ده فضل في حيز المقتنيات الخاصة داخل القصور والبيوت مش للعرض العام.
أبدع مايكل أنجلو في الرسم على سقف كنيسة سيستين وأخذ العُري لآفاق جديدة، بتصويره للعضلات بحركات ملتوية مبالغ فيها. حتى الملائكة صوّرهم “أنجلو” إما عاريا أو شبه عاريا.
مع ظهور الإسلام وانتشاره، وفي عز توسع الأمبراطورية الإسلامية وصعودها لم يتوقف فن التصوير، بل على العكس أزدهر بفضل سعى الخلفاء الملوك -بداية من الدولة الأموية- في محاكات نظرائهم في الشرق والغرب، فأمروا ببناء القصور وزينوا جدرانها برسومات ولوحات كتير منها احتوى على أجساد عارية، زي قصر قصير عمرة، اللي كتير من الآثريين بينسبوه لعصر الوليد بن عبد الملك.
الأمويين ماكنوش طفرة في تاريخ الدولة الإسلامية الممتد، فالتصوير العاري استمر طوال تاريخها.. ووصل أعلى انتشار له عند الصفويين والعثمانيين، وإن كان أقتصر على الجواري والغلمان.
مع التطور التقني وانتشار الفوتوغرافيا كان طبيعي أن يستفاد التصوير العاري من التقنية الحديثة، فانتشرت صور فوتوغرافية ومن بعدها ديجيتال تحتفي بالجسد الإنساني وجمالياته. إن كان بغرض الإثارة الجنسية زي بلاي بوي وما شابه.. أو لأسباب فنية بحتة بعيدة كل البعد عن الشهوانية.
وإذا توخينا الدقة والإنصاف هنلاقي أن تقنيات التصوير هي المستفيدة من التصوير العاري، الجنسي منه على وجه التحديد، عن طريق استخدام النماذج الأولية في تصوير مواد إباحية وطرحها للبيع إن كان بشكل علني أو سري.. وفي الحالتين الجمهور بيقبل عليها وتبقى بضاعة رايجة جدا وتحقق أرباح كبيرة، الأرباح دي جزء منها يعاد ضخه لصالح تطوير تقنيات التصوير والعرض المختلفة.
العُري أصيل في حياتنا كبشر، فإحنا بالأساس عرايا “ماحدش أتولد بالبيجامة” ولأسباب متنوعة (مناخية.. ثقافية.. دينية.. إلخ) بنلبس هدوم، وعشان كده “في رأيي” أن من الخطأ على مستوى اللغة وصف شخص عريان إنه “مُتعري”، لإنه هنا ماقمشي بأي فعل عشان يشار إليه باستخدام “اسم فاعل”، بالعكس هو ماقمشي بفعل “اللي هو لبس الهدوم”، إلا لو كان بيرقص استربتيز ده وضع تاني.
ولحد النهارده عايش معانا على كوكبنا الجميل، إن كان هنا في إفريقيا أو في أستراليا أو حوض الأمازون، قبائل عايشة زي ما أتولدت، من غير ملابس نهائي أو بالقليل قوي منها.
التصوير العاري كفن دخل مصر في صورته الحديثة مع إنشاء كلية الفنون الجميلة، ضمن مناهجها تحت اسم “الطبيعة الحية”، وفضل موجود كأحد أنواع التصوير الفني عشرات السنين.. ويشتهر اسم المصور فان ليو في هذا المجال لقصة طريفة تتعلق بموديل صورها في نهاية الخمسينيات ثم ألتقى فيما بعد بحفيدها المصور اللبناني أكرم الزعتري اللي اكتشف صور جدته بالصدفة وزار مصر مخصوص يدور عن الستوديو وعمل فيلم عن القصة تحت عنوان هو + هي.
للأسف انتهى تدريس مادة “الطبيعة الحية” واختفى الموديل العاري من كليات الفنون في منتصف السبعينيات بعد ضغوط من اتحاد الطلبة اللي سيطر عليه التيار الإسلامي، زي أغلب الاتحادات والكيانات الجماهيرية وقتها. لكن الطفرة الرهيبة اللي حصلت في التكنولوجيا والانتشار الواسع لتقنية التصوير الديجيتال ظهر معاها موجة كبيرة من تصوير الأفراد لأجسامهم، فاهتمام الإنسان وولعه بجسمه وكماله أو جماله أصيل في العقل الإنساني، وتنوعت أسباب التصوير بين الإغراء والاحتفاء بالجمال.
بس الملفت هو اختلاف ردود الفعل المجتمعية على الفعل نفسه بناء عن جنس الفاعل، فلما يكون ذكر الناس تستقبل صوره عادي.. أما لو أنثى تبقى كارثة كونية، عشان كده أقدر أنشر صور كابتن عمرو ياسين كاملة وأذكر اسمه ومهنته كمدرب لياقة بدنية.
في حين الصور الأنثوية مش كاملة وماقدرش أكتب اسم الموديل رغم أني معايا أذن منها للنشر ومتحمسة جدًا تشوف صورها منشورة.
إزدواجية مصدرها شيطنة معسكر المحافظين -بقيادة التيار الإسلامي- للنوع ده من الفن، ودأبهم على محاربة العُري ووصفه بالوباء الوافد من مجتمعات تانية، وهو كلام يضحك ويبكي في نفس العبوة، يضحك أن الناس دي ماينفعشي وصفهم بالمتخلفين، لإنهم لو متخلفين (متأخرين) كانوا هيعرفوا أن ده العادي بتاع البشر من ألاف السنين وأن الهدوم هي المستحدثة، الناس دي التوصيف الأدق ليهم “مش من هنا”، ويبكي لأن شوية ناس “مش من هنا” بيتحكموا في حياة عشرات الملايين من البشر… اللي أنا واحد منهم.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال