لُغة الجامعيِّين المؤسفة
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
في الحديث عن حال اللغة العربية ما يرهق الذهن ويوجع القلب، أعني حالها على ألسنة الناطقين بها وفي أسنَّة أقلامهم، نطق مُعْوَجٌّ وخطوط رديئة وأخطاء إملائية فاحشة، بين دارسي اللُّغة العربية أنفسهم ما يدعم هذا القول للآسف، إنني أشعر بامتعاض كبير لما آل إليه الحال طبعا، لكن هذا ما حدث، وعلينا التعامل مع حقيقة حدوثه بتفهم يعلو على غيظنا منه، وبعلمية ودقة، وبمحاولة إنارة المناطق المعتمة للأجيال القادمة، فكثيرون من أبناء الأجيال الحالية، بأمانة، فاته القطار اللُّغوي فواتًا، وربما عزَّ أن يلحق به.
أسباب الاضمحلال اللغوي معروفة: غياب التأسيس المتين في سن صغيرة، تكدس المناهج بما لا يفيد، خطط التدريس السيئة، ضعف الأساتذة أنفسهم أيًّا كانوا وفي جميع المراحل، الغفلة عن أفرع لغوية مهمة حتى في الكليات المتخصصة (القراءة الحرة، الإملاء، تشكيل الكلمات، علامات الترقيم)، مع إهمال اللغة في الممارسات الواقعية، وأخيرا احتياج سوق العمل للغات أخرى خلاف العربية.
لن يفيد دارس اللغة في الجامعة أن يستمع إلى محاضرين عمالقة ما دام ليس مؤسَّسا تأسيسا حقيقيًّا؛ فالأصل أن يتشرَّب التلاميذ في بداياتهم مادتهم اللُّغوية، عاما بعد عام، حتى يحدث الرِّيُّ الذي يغذِّي السَّائر في الطَّريق اللُّغوي بعد ذلك، ويتَّضح اكتمال السُّلَّم الذي بواسطته يجري الصعود إلى الأعلى بثبات وثقة.
لقد خفَّت الأساليب الرَّصينة حتى عند الكتَّاب والشُّعراء الذين يعاملون اللُّغة معاملة حميمة مستمرة؛ وبات الرَّاصد يستعجب من البساطة اللُّغوية لدى هؤلاء، البساطة التي لا تعكس معنى مفاده عدم التعقيد، لكن تعكس ضعفا وركاكة وعجزا عن بلوغ المقاصد لأن الحصيلة اللُّغوية لا تساعد على بلوغها.. لم أذكر الصحفيين هنا لأن أساليبهم خفيفة بالأساس، لكن طالما شهدت الصحافة في بلادنا أفرادا كانت أساليبهم الرَّصينة غاية في العذوبة والسَّلاسة، وكان متابعوهم، من العاديين لا المثقفين، يشيدون بهم، ولم يكن ثِقَلُهم اللُّغوي يحول بين الناس وإدراك مراميهم.
في ناد من أندية الأدب كنت ضمن منشئيه، في زمنٍ ماضٍ، اقترح أحد الأصدقاء المهتمين باللُّغة والرَّاسخين فيها أن نعقد جلسات لقراءة نصوص أدبية، من حين لآخر، نختارها ونتفق عليها، ونستغل حضور شباب جامعيين، أغلبهم يدرسون اللُّغة العربية ويبدون اهتماما عظيما بآدابها، ليشاركونا قراءتها وتذوقها طبعا، ووافقنا على الفور، وبعدها بأسبوعين أو ثلاثة بدأنا تنفيذ الفكرة الممتازة، وكانت الصدمة الكبرى، لم ينجح أحد من في قراءة قصيدة كاملة للمتنبي بصورة صحيحة، ولا قصَّة ليوسف إدريس، ولا حتى مقالة نقدية قليلة السُّطور..
دعونا الجميع بعدها لفتح الموضوع في إحدى جلسات نادينا، وهي الجلسة التي كنا جعلناها طارئة وطويلة الزَّمن، لكنَّ ما انكشف لنا بسببها من الأمور السلبية كان أقسى علينا من سوء القراءة نفسه، ويكفي أن يعلم القارئ العزيز أن أكثر من نصف هؤلاء الشباب لم يحضروا تلك الجلسة، بدون اعتذارات، بل فقدناهم بعد ذلك تدريجيا في نادينا، وحينها وصل إلينا أن بعضهم بدأ يقول بغرور: أنا مبدعٌ ولستُ طالبا يُمتَحَنُ في القراءة!
أخيرا.. لا يجب ربط اللُّغة بالمقدَّس الدِّينيِّ، أعني القرآن الكريم؛ لأن ذلك الرَّبط يمنحها قداسة زائفة، ومقدار ما قد يقرِّبها من طائفة معيَّنة قد يبعدها عن سواها، بالإضافة إلى أن قداستها المختلقة قد تمنحها مهابة تصعِّب مهمة التفاعل المرن معها؛ ومن ثَمَّ يشقُّ على الضعفاء فيها أن يصحِّحوا أوضاعهم وعلى الأقوياء أن يقوموا بتصحيح هذه الأوضاع. إن اللُّغة وسيلة تواصل، أصواتٌ محضةٌ يُعبَّر بها عن الأغراض كما في المعاجم، والأمل في إنعاشها عند الذين ماتت بسُوحِهم قائمٌ ما دامت كرة يقذفها بعضنا لبعض بيسر واستقامة، منتظرا ردًّا يسيرا مستقيما، وليست شيئا فوقيًّا يعذِّبنا الإيمان به والحرص عليه.
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد