ضربة الحظ الأولى في حياة محمد القصبجي..من سيرة حياة الموسيقار (3)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في حلقة جديدة ومهمة من سلسلة حلقات سيرة الموسيقار الكبير المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في الحلقة السابقة حيث استقلال محمد القصبجي في مسكن بسيط بحي قلعة الكلاب وبدايته الفنية بصحبة العوالم كعازف لآلة العود فقط، واليوم نتحدث عن ضربة الحظ الأولى في حياة محمد القصبجي والتي أخرجته للنور وعرفت الناس بفنه وقدرته على التلحين.
المرحوم محمد القصبجي وضربة الحظ التي أضاءت له الطريق:
ظل محمد القصبجي عازفا على عوده وراء العوالم بشارع محمد علي وفي الليالي والأعراس حتى ابتسمت له الحياة بضربة حظ تمثلت في تعرفه بمحض الصدفة على المطربة توحيدة وكانت صاحبة صيت وشهرة عظيمة في ذلك الوقت، ولحن لها دور الحب له في الناس أحكام وكان قد لحنه على مقام الزنجران، وحينئذ كان ذلك الدور هو أول دور يلحن على مقام الزنجران، حتى أن كثير من المؤرخين قد ذهبوا إلى القول بأن بعض المعاصرين للقصبجي وسيد درويش قد أقروا بأسبقية القصبجي في استخدام هذا المقام في تلحين الأدوار حتى قبل دور الزنجران الشهير الذي لحنه الشيخ سيد درويش “في شرع مين” بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك فقالوا أن الشيخ سيد درويش لم يلحن دور في شرع مين على مقام الزنجران إلا بعد أن استرعى انتباهه الدور الذي لحنه المرحوم محمد القصبجي للمطربة توحيدة.
يقول المؤرخ الموسيقي المرحوم كمال النجمي حول مسألة السبق في التلحين على مقام الزنجران:
يبدو لي أن المرحوم محمد القصبجي هو صاحب السبق في مسألة التلحين على مقام الزنجران بدور الحب له في الناس أحكام، والدليل على ذلك أن المطربة توحيدة قد غنت هذا الدور قبل حضور المرحوم الشيخ سيد درويش إلى القاهرة ليقيم فيها سنة 1918م، ثم غنت توحيدة طقطوقة بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة بعدما غنت هذا الدور، وتبعتها في غناء هذه الطقطوقة المطربة منيرة المهدية سنة 1920م وسجلتها على اسطوانة بيضافون، بل إن جميع المطربات المشهورات قد غنين هذه الطقطوقة في ذلك العصر المزدحم بالمغنيات والعوالم.
على أية حال فإن دور الحب له في الناس أحكام لم يعش كثيرا على الرغم من النجاح الساحق الذي حققه وقت أن غنته توحيدة، وعلى الرغم كذلك من أن المطربين والمطربات كانوا قد بدأوا يتهافتون على تسجيل هذا الدور، فقد سجله المرحوم زكي أفندي مراد على اسطوانة بيضافون كذلك سجل دور المرحوم الشيخ سيد درويش على اسطوانة ميشيان إلا أنه في النهاية لم يستطع أن يعطي الصورة الفنية الدقيقة لهذين الدورين المهمين، وتقول
كلمات الدوركما غناه المرحوم زكي أفندي مراد:
الحب له في الناس أحكام، والصبر ياما نصف مظلوم
واللي ضناه في الحب غرام، لا يفتكر لوم اللي يلوم
طيف الخيال لما زارني، تاهت معاه روحي في حبك
والبدر يحكي لك عني، ويلتمس لي رضا قلبك
يا صاحب القد العادل، ليه عن وداداي تكون ميال
مالكش في الحسن مماثل، وأنا ماليش في الوجد مثال
وإذا ما نظرنا إلى كلمات هذا الدور ندرك أهمية ذكر كلماته في هذا الصدد، فالشائع في هذا الوقت أن الطقاطيق كانت تكتب بلغه عامية ركيكة وكانت الخلاعة هي السائدة آنذاك ولا يخفى على أحد نوعية الطقاطيق التي كان يغنيها المرحوم عبد اللطيف البنا وكذلك منيرة المهدية كطقطوقة ارخي الستارة اللي في ريحنا وطقطوقة بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، وبناء عليه تبدو هنا أهمية كلمات الدور خصوصا حين نقارنها بكلمات الطقاطيق الخلاعية على حد تعبير البعض، والتي اضطر المرحوم محمد القصبجي إلى تلحينها فيما بعد، كأغنية بعد العشا يحلى الهزار والفرفشه التي سبق ذكرها، فكلمات دور الحب له في الناس أحكام من الزجل الراقي بعكس تلك الطقطوقة وأمثالها، لدرجة أنه قيل أن مؤلف الدور هو أحمد رامي الذي بدأ بكلماته مرحلة جديدة في تأليف الأغاني، على أن المؤلف الحقيقي لهذا الدور غير معروف.
إقرأ أيضًا..رحلة إسلام من “بكرة جاي” إلى التوحيد والنور والشيخ صلاح
أما المطربة توحيدة والتي غنت دور القصبجي في صالة ألف ليلة وليلة بميدان العتبة الخضراء، كما غنت دور سيد درويش فلم تسجل لا دور القصبجي ولا دور سيد درويش، ومن حسن حظ جمهور المستمعين من محبي الشيخ سيد درويش أنه لم ينس أن يسجل دور الشهير بصوته.
المرحوم محمد القصبجي ينتقل لميدان التلحين: “القصبجي ينتقل من قلعة الكلاب إلى باب الخلق”.
بعد نجاح القصبجي في تلحين دور الحب له في الناس أحكام، انتقل من صحبة العوالم والمغنيات في الأفراح إلى التلحين للمطربات الشهيرات، كذلك تطلبت الحاجة آنذاك أن يترك مسكنه المتواضع بمنطقة قلعة الكلاب ليسكن في بيت جديد أحسن قليلا بميدان باب الخلق بالقرب من دار الكتب السلطانية في آخر شارع محمد علي.
بدأت الدنيا تفتح ذراعيها أكثر وأكثر أمام الموسيقار محمد القصبجي فتعرف على منيرة المهدية وغيرها من المطربات فاتسع رزقه وعمل مدرسا للعود بنادي الموسيقى الشرقي مقابل أجر معقول، وكان من أوائل تلاميذه في تلك الفترة المطرب الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ووقتها كان الموسيقار محمد عبد الوهاب يغني ولا يعرف العزف على العود بل ولا يملك عودا من الأساس، فتولى نادي الموسيقى الشرقي شراء عود له، وكلف القصبجي بتعليمه العزف على آلة العود، وقد ذكر الموسيقار محمد عبدالوهاب ذلك بنفسه في أحد اللقاءات التليفزيونية التي سجلت في فترة الثمانينات، وظل مقرا بفضل المرحوم محمد القصبجي عليه حتى وفاته.
مثلت بداية العشرينات فترة الإزدهار ووضوح معالم الطريق أمام محمد القصبجي، فبعد أن كان مجرد عازفا لآلة العود في تخت العوالم، انتقل إلى مرتبة التلحين للمطربات، ثم مدرسا لآلة العود ثم فرصته الذهبية في التعاون مع أم كلثوم وهو ما سنتحدث عنه في الحلقات القادمة إن شاء الله.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل المسيرة في حلقات قادمة.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال