هل أخفق الموسيقار محمد القصبجي؟
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السابعة عشر من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن بعض الأمور التي اعتبرها البعض اخفاقا في مسيرة ذلك الموسيقار الكبير، واليوم ننتقل للحديث عن جانب آخر من جوانب حياة المرحوم محمد القصبجي.
الجانب الثقافي من حياة الموسيقار الكبير محمد القصبجي:
قد لا يلتفت البعض إلى الجانب الثقافي في معرض الحديث عن شخصية موسيقية، والحقيقة أن الجانب الثقافي من حياة الفنان هو جانب هام جدا يكاد يكون أحد المؤثرات الأولى في شخصيته بل وفي نتاجه الفني أيضا، لذلك عند الحديث عن المرحوم محمد القصبجي والبحث حول الثقافة التي كانت سائدة وقت أن احترف الموسيقى، نجد أن الحالة الثقافية في القاهرة في مطلع العشرينيات بل وربما من قبل العشرينيات كانت بيئة خصبة لثقافة العوالم وأدب التعريب، كانت الأصالة الإبداعية العربية التي مثلت شباب الفن في منتصف القرن التاسع عشر تمر في فترة تحول بعد أن استنفد مشروع النهضة خارجها في تعثراته كل ما أوتي من أسباب سواء من الداخل أو الخارج، وربما مثلت في الوقت ذاته سلاحا ذو حدين أحدهما سيء وصف بالركاكة والآخر جيد مثل بيئة مناسبة لاستخراج المواهب التي سعت لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، ومن بين رجال هذا القرن الذين سعوا لتصحيح الأوضاع كان المرحوم محمد القصبجي، وأيا كانت الطريقة التي اتبعها في سبيل هذا التصحيح وذلك التعديل، فإن الدور الثقافي الذي قدَّمه القصبجي بتكوين الصورة الرومانسية الرفيعة بأشعار أحمد رامي لم يصل ذروته في تلك المرحلة بل ترك بذوره لما بعدها ليكمله جيل آخر تربى على يديه وفهم الصنعة منه كما ينبغي، وقد استغل المرحوم محمد القصبجي الأصوات التي ناسبت تلك المهمة أحسن استغلال، لاسيما وأن بعض تلك الأصوات إنما كانت تسعى في الطريق ذاته إثباتا لأمر ما علق بذهنها منذ خطواتها الأولى، فأم كلثوم مثلا إنما أرادت من تلقاء نفسها أن تنقل الجمهور نقلة كبيرة وتحوله تحولا نوعيا من الركاكة والإسفاف إلى البلاغة والفصاحة بأشعار قيّمة وسهلة في الوقت ذاته، وربما تلاقت الأهداف بين القصبجي وأم كلثوم فحققا معا مرادهما.
جاء في مجلة الرياض:
استطاع الموسيقار محمد القصبجي أن يترك مبدأ ممتازاً يكسر به سطوة عادات وتقاليد دارجة، وهذا المناخ الثقافي في تحولاته لم يكن بطلاً فيه وحده إلا لكونه رجلاً، فربما كان على علم بما فعلته المطربة الكبيرة ماري الجميلة أو ماري جبران التي قامت في عام 1925بتسجيل دور يا ما انت واحشني، من ألحان المرحوم محمد عثمان كاسرة بدورها المحرم الغنائي على الحنجرة النسائية أن تغني الدور والموشح والقصيدة، وركنها على بوابة الطقطوقة مثلما كانت عليه توحيدة ونعيمة المصرية، وما قيام منيرة المهدية بالوقوف على المسرح إلا تعزيزا لذلك من حيث دور المرأة المفترض على المسرح وقفة وتمثيلا وغناء، وربما كان لصالون الموسيقية والممثلة والمنتجة بهيجة حافظ دور كبير في كونه منتدى ثقافيا غير مألوف في قاهرة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، حوارات ثقافية، ومناظرات موسيقية، وأدوار غنائية، ومن المعروف أن المرحوم محمد القصبجي كان قد تعاون معها في وضع الموسيقى التصويرية في ثالث فيلم أنتجته ومثلته ليلى بنت الصحراء 1937م، وقد لحن الإثنان سويا قصيدة ليت للبرَّاق عينا، التي سجلت بصوت كل من حياة محمد، وإبراهيم حمودة ثم سجلتها أسمهان بعد ذلك، وكان القصبجي يجتمع معها على عزف تقاسيم، هي على البيانو وهو على عوده، وكذلك عازف الكمان سامي الشوا وأحمد الحفناوي حيث أدارا خطط تسجيلاتهما الأولى من التقاسيم هناك، ودارت حوارات ونقاشات عنيفة حول تجديد الموسيقى، ومزايا موسيقى الشرق والغرب، كل هذا في صالون بهيجة حافظ الثقافي لا فيما انشغلت به الساحة الثقافية من غراميات صالون مي زيادة، ولا عنتريات صالون العقاد.
محمد القصبجي موسيقي سابق عصره:
الفكر الموسيقي للمرحوم محمد القصبجي هو فكر غاية في التعقيد، تلك نظرة الجميع لـ الموسيقار محمد القصبجى الصعوبة في خلق الموسيقى ربما كانت سببا لتفرده وتفرد موسيقاه، لم أجد موسيقيا أو مطربا مخضرما لا يتفق والنظرة تلك لألحان الموسيقار الكبير محمد القصبجي، الكل يتفق أن العامل المشترك بين معظم أعماله هو الصعوبة في انتاجها، والأمر البديهي أن النماذج الواضحة والأمثلة التي يمكن ضربها في هذا الصدد ستكون جميعها مونولوجات لحنها الموسيقار الكبير، فموسيقى وألحان مونولوج كمونولوج يا عشرة الماضي الجميل هي موسيقى تستحق وقفة، يبدأ المونولوج بقطعة موسيقية ملحنة من مقام العجم عشيران لا يختلف اثنين أنها مناخ جد مناسب لحالة النوستالجيا التي يحكيها المونولوج، ” يا عشرة الماضي الجميل” “يا ريت تعودي” “حفظت لك أغلى جميل صنته في عهودي” ثم يبدأ القصبجي في تنويع موسيقاه على المقام ذاته حتى يصل لقول رامي وفي الوقت ذاته هو الوجه الآخر للاسطوانة “جربت في الأسية وشفت حسن امتثالي” “ما يحن قلبك علي وتشوفي في الود حالي”، عبقرية في خلق الموسيقى المعقدة التي تعبر صدقا عن المحتوى المكتوب، ربما شاركه في نجاح العمل صوت كصوت أم كلثوم، وربما وصل لتلك المرحلة كبار آخرون كداوود حسني ورياض السنباطي وزكريا أحمد، بيد أن قالب كقالب المونولوج بما يتضمنه من بث للمشاعر ما كان ليلحن بتلك الصعوبة وهذا الجمال في الوقت ذاته بدون فكر موسيقي كفكر المرحوم محمد القصبجي.
إقرأ أيضًا…إلى شيرين عبد الوهاب: متى تحول الإنسان الفظيع إلى عسل وسكر؟!
ولعل التعبير بمعظم الأعمال هنا لاستثناء الألحان الأولى له أو ألحانه في ميدان القصيدة والتي جاءت سهلة وربما تقليدية، أو بالأحرى لتخصيص الحديث حول ألحان محمد القصبجي بعد أن صار محمد القصبجي الذي عرفه أهل زمانه، محمد القصبجي الذي صار مدرسة لتعليم العود، محمد القصبجي الذي طور المونولوج الغنائي وأخرجه في أبهى صوره، لذلك يذهب البعض إلى القول بان موسيقى المرحوم محمد القصبجي توحي دائما بأنها مكتوبة لفرقة موسيقية كبيرة، فلا يقدر التخت الصغير على أعبائها التعبيرية والهارمونية المعقدة جميعا، لذلك تقول كوكب الشرق أم كلثوم في لقاء قبيل وفاتها: إن المرحوم محمد القصبجي كان موسيقيا عالما سابقا لعصره، والحق أن قول كهذا لم يكن غريبا من أم كلثوم التي قطفت أمجاد لحن المرحوم محمد القصبجي لها “إن كنت أسامح وأنسى الأسية” حين باع ربع مليون اسطوانة، في حين يرى البعض أن الموسيقار محمد القصبجي لم يكن كما قالت أم كلثوم موسيقيا قد سبق عصره بل ضحية من ضحايا عصره، سبقه العصر والزمن وجارت عليه الأيام بعد أن تسيد حقبة زمنية خصبة.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال