عن فلسفة محمد القصبجي اللحنية
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السادسة والعشرين من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في الحلقة السابقة من الحديث عن فلسفة المرحوم محمد القصبجي التلحينية التي اختلفت بين نصف أول حمل ارستقراطيته في التلحين بناء على وجود فئة مثقفة هي التي كانت تتحكم في الذوق العام وبين نصف ثاني انزوى فيه المرحوم محمد القصبجي وأفسح المجال لملحنين جدد كانوا أقرب للذوق الشعبي خصوصا بعد الثورة حين تقاربت الطبقات وشاع الفن بين أطياف لا يمكن بحال أن تتساوى مع الفئة الأولى التي تحدثنا عنها من حيث الذوق الموسيقي الرفيع، وقلنا أنه ابتداء من هذه الحلقة سنتحدث عن التزوير الذي أصاب سيرة الموسيقار محمد القصبجي.
تزوير سيرة المرحوم محمد القصبجي:
من الأمور الغريبة التي يقف عندها كثير من الكتاب والنقاد أن الموسيقار محمد القصبجي هو أكثر موسيقيّ القرن العشرين الذين لحقت بقصة حياتهم سلسلة طويلة من التزوير والوضع، والحقيقة لا أعرف ما إذا كان السبب في ذلك هو الغموض والصمت اللذين سيطرا على المرحوم محمد القصبجي طيلة حياته أم لقلة اللقاءات الإذاعية أو الحوارات الصحفية لذلك الموسيقار الكبير الذي آثر الصمت والاختفاء على الشهرة، شائعات كثيرة ومعلومات مغلوطة أحاطت بسيرة ذلك الرجل، منها مثلا أنه كان شخصا بخيلا شديد الحرص على المال، كذلك تضارب الأقوال حول توقفه عن التلحين لأم كلثوم بين عقابا من الست له أو نضوبا لفكره الموسيقي أو رغبة منه هو بعد فقدانه الامل.
وللأسف الشديد وجدت أغلب تلك الشائعات بيئة خصبة لتنمو وتزدهر وتتناقلها الأجيال لتترسخ عند البعض كحقائق وهي لا تتعدى أن تكون رأيا شخصيا مستندا لأفكار لا تمت للواقع بصله، وفي هذه الحلقة نتعرض لبعض ما جاء على هذه الشاكلة، ونبدأ من حيث كتاب الدكتورة رتيبة الحفني.
كتاب الدكتورة رتيبة الحفني عن المرحوم محمد القصبجي وما جاء فيه من أخطاء:
الدكتورة رتيبة محمود أحمد الحفني هي فنانة مصرية كبيرة، تولت منصب عميدة دار الأوبرا المصرية وهي إبنه المؤلف الموسيقي الكبير محمود أحمد الحفني ولها كتب كثيرة عن أعلام الموسيقي العربية، كتبت الدكتورة رتيبة الحفني كتابها عن أم كلثوم ولم يخل هو الأخر من بعض الأخطاء التي تدراكناها عند الحديث عن سيرة كوكب الشرق واليوم نتحدث عن كتابها عن المرحوم محمد القصبجي.
في عام 2006م نشرت دار الشروق كتابا للدكتورة رتيبة الحفني بعنوان محمد القصبجي الموسيقي العاشق، والحقيقة أن هذا الكتاب وإن وثق سيرة المرحوم محمد القصبجي بشكل جيد إلا أنه قد احتوى على قدر كبير من المعلومات المغلوطة التي حدت بالبعض إلى وصف هذا الكتاب بأنه أشبه بعملية تزوير لسيرة الرجل الاجتماعية، فضلا عن نقد الجانب المدرسي في التأليف.
كانت المحاور الأساسية التي قام عليها هذا النقد تدور في فلك ثلاث أمور، أولها أن الدكتورة رتيبة الحفني لم تقم سوى بتدوير أفكار سابقة وإعادة تقديمها عن المرحوم محمد القصبجي سواء من كتب أخرى أو مقالات كتبت عنه أو لقاءات لموسيقيين ونقاد تحدثوا عن الرجل، وثانيها كان نقدا حول نقطة البداية التي انطلقت منها الدكتورة رتيبة الحفني والتي تمثلت في أفكار مسبقة حول أبرز ملامح التجربة الغنائية والموسيقية للمرحوم محمد القصبجي، وثالثها كان إغفالها مسألة التحليل الاجتماعي للدور الثقافي الكبير الذي تركه لنا المرحوم محمد القصبجي.
على أية حال فقد احتوى كتاب الدكتورة رتيبة الحفني “محمد القصبجي الموسيقي العاشق” على أحد عشر فصلاً: أولها نشأة الموسيقار محمد القصبجي، وثانيها بداية حياته الفنية، وثالثها ألحان محمد القصبجي للمسرح الغنائي، ورابعها لقاء محمد القصبجي بكوكب الشرق أم كلثوم، وخامسها ألحان محمد القصبجي في ميادين القوالب الغنائية المختلفة، وسادسها محمد القصبجي وصوت أسمهان، وسابعها أسلوب الموسيقار محمد القصبجي في التلحين، وثامنها لقاء محمد القصبجي وشاعر الشباب المرحوم أحمد رامي، وتاسعها الحياة الأسرية للموسيقار محمد القصبجي، وعاشرها قالوا عن الموسيقار محمد القصبجي، أمال الفصل الأخير فتضمن حديثا مجملا حول أعمال المرحوم محمد القصبجي الغنائية.
إقرأ أيضًا…ماذا لو أصبح تيمون وبومبا مسؤولي السعادة؟!
تحدثت الدكتورة رتيبة الحفني في مقدمة كتابها “محمد القصبجي الموسيقي العاشق” عن علاقة والدها محمود الحفني بالموسيقار محمد القصبجي، وذكرت أنها قد تعلمت على يده العزف على آلة العود، كذلك أشارت إلى مشاركة المرحوم محمد القصبجي لوالدها ووالدتها هواية الاستماع إلى الموسيقى الأوروبية.
وهنا نتوقف قليلا، ذلك أن الدكتور رتيبة الحفني قد أشارت إلى أن تلك المشاركة العادية بين المرحوم محمد القصبجي ووالدها ووالدتها كانت سبباً في ولادة لحن يا طيور الأوبرالي، الذي سجلته المرحومة أسمهان الأطرش سنة 1939، والذي اعتبر وقتها منتجا جديدا في الغناء العربي على وجه الخصوص بل قد يعد منتجا موسيقيا جديدا بالكلية في الموسيقى الشرقية عموما.
أما عن سبب تأليف الدكتورة رتيبة الحفني لهذا الكتاب فقد أرجعته لشعورها بأن المرحوم محمد القصبجي لم يأخذ حقه من الشهرة في وسائل الإعلام، سواء في حياته أو حتى بعد وفاته.
والحقيقة أن مسألة الشهرة التي لم يحظ بها المرحوم محمد القصبجي كانت مجالا خصبا للكثير من التحليلات الخاطئة، وقد تحدثنا عنها في بداية هذه السلسلة، ربما لم يحظ الموسيقار محمد القصبجي بتلك الشهرة لأنه هو الذي لم يرغب بذلك، ربما لفلسفته في التلحين، ربما لذات النقطة التي جعلتها الدكتورة رتيبة الحفني سببا وهي أن المرحوم محمد القصبجي لم يكن يمتلك صوتا جميلا كأقرانه زكريا أحمد ورياض السنباطي، وهذا السبب وإن كان يعتمد على مسألة ذوقية إلا أن البعض قد وصفه بالسخف لأن معيار جمال الصوت مسألة نسبية، وأنا أختلف صراحة مع هذا الرأاي، فمعلوم أن ذلك الجيل على الأقل كان له حد أدني معروف عن مسألة جمال الصوت، والقصبجي للأسف لم يحزه.
نتوقف قليلا عن الحديث عن كتاب الدكتورة رتيبة الحفني وسنعود للحديث عنه لاحقا لنقول: إن مسألة التزوير أو التزييف أو المعلومات المغلوطة التي نتحدث عنها ابتدا من هذه الحلقة لا تقتصر على الكتابات الحديثة عن المرحوم محمد القصبجي، فهناك الكثير من المعلومات التي فهمت مسبباتها خطأ قد جاءت على لسان كثير من المقربين من المرحوم محمد القصبجي، فقد كتب المرحوم محمود كامل وهو أحد أصدقاء الموسيقار محمد القصبجي، كتاباً عنه بعد وفاته بعامين أو ثلاث، وصدر هذا الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر عام 1971م بعنوان: محمد القصبجي حياته وأعماله، وللأسف لم يخل هذا الكتاب هو الآخر من المعلومات المغلوطة خصوصا حول أمرين الأول: هو توقف محمد القصبجي عن التلحين بعد رق الحبيب بشكل مطلق، وهذا خطأ فادح، حيث استمر القصبجي ملحنا إلى ما قبل وفاته سنة 1966م حيث كان يعد لحناً جديداً لفايزة أحمد بعد أن سجل لحناً دينياً لوردة وهو إياك نعبد ما حيينا، من تأليف المرحوم أحمد مخيمر، أما الأمر الثاني: فهو أن ثمة علاقة عاطفية كانت سببا لبقاء المرحوم محمد القصبجي عواداً في فرقة أم كلثوم بعد توقفه عن التلحين لها، وهو ما فنده الكثير من النقاد على أساس فارق العمر بينهما فضلا عن زواج أم كلثوم من شريف باشا صبري، والحق حتى وإن كان هناك سببا عاطفيا فلا مبرر للحديث عن الشأن الخاص للكبيرين ونحن بصدد توثيق سيرة موسيقار كبير كمحمد القصبجي.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال