حكاية محمد القصبجي مع العود
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الرابعة والعشرين من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من قصته مع آلة العود وكذلك محاولات النيل من ألحانه ونسبتها إلى غيره، واليوم نتحدث عن دور المرحوم محمد القصبجي في تطوير قالب الطقطوقة وإدخال لمسته التجديدية عليه.
المرحوم محمد علي القصبجي والطقطوقة المتطورة:
معروف أن المرحوم الشيخ زكريا أحمد هو أول من طور الطقطوقة وذلك بأن جعل كل غصن فيها على لحن مختلف بعد أن كانت كل أغصانها تلحن بلحن واحد، وكانت تجربته الأولى عام 1931م، بطقطوقة اللي حبك يا هناه التي غنتها أم كلثوم من كلمات رامي، إلا ثمة تعديلا جديدا نحن بصدده الآن، وهو تعديل وتطوير المرحوم محمد القصبجي، فالمرحوم محمد القصبجي قد استوحى فكرة عبقرية خلقت نمطا جديدا من الطقاطيق، ومضمون تلك الفكرة هو دمج المذهب “الذي هو جزء ثابت من الطقطوقة” أو جزءا منه بآخر كل غصن، وبالتالي لم يعد المذهب مستقلا كما كان يغنّى منفردا، وليس ذلك فحسب بل بدل القصبجي لازمة كل غصن من أغصان الطقطوقة لتناسب كل لازمة مقام الغصن الذي سيليها، وهو ما سيشعر المستمع في النهاية بالترابط بين أجزاء الطقطوقة وكأنها كتبت على النحو الذي طوره المرحوم محمد القصبجي، وقد قدم القصبجي هذا الأسلوب المبتكر في طقطوقتين شهيرتين الأولى: هي طقطوقة إنتي فاكراني ولا ناسياني من كلمات شاعر الشباب أحمد رامي وقد سجلت سنة 1931م على اسطوانة أوديون، وبيان ذلك كالآتي:
مطلع الطقطوقة يقول: إنتي فاكراني ولا ناسياني، ياللي ظالماني، ياللي هاجراني، انتي فاكراني ولا ناسياني.
إقرأ أيضًا…
كيف ضاعت الفرصة الوحيدة لأن يكون أمل دنقل ممثلًا سينمائيًا؟
فهذه الطقوقة مكونة من أربعة أغصان، الأول: الحنين فاض بي والبعاد طوّل، والثاني: إمتى يتمتع بالوصال قلبي، والثالث: طال عليّ الليل، والرابع: إرحمي قلبي واسألي عني، فكل هذه الأغصان تختتم بقول أم كلثوم: ياللي ظالماني ياللي هاجراني، انتي فاكراني ولا ناسياني، والذي بالتبعية يكرر معه لحن مطلع الطقوقة، وبمعنى أدق كان سيسمح ذلك بالتكرار إذا ما تلعثمت أم كلثوم أو نسيت أحد الأبيات أو قررت إعادة الغصن مرة أخرى، وربما حدث ذلك بالفعل في الحفلات التي لم تسجل، فمعروف أن كل الاسطوانات التي وصلتنا قد غنت أم كلثوم أغنياتها في حفلات إلا أنها لم تسجل، ومعروف كذلك أسلوب أم كلثوم في الإعادة حين يستعيدها الجمهور، وارتجالاتها وتفاريدها على اللحن، ولا أعتقد أن هناك مادة تسمح بهذه الأمور بحرية أنسب من مادة اللحن الذي قدمه القصبجي بهذا التطوير المبتكر.
أما الطقطوقة الثانية فهي طقطوقة ليه تلاوعيني وانتي نور عيني، وهي من كلمات شاعر الشباب رامي أيضا، وقد سجلت على اسطوانة أوديون سنة 1932م، وهي من حيث الشكل تشبه إلى حد كبير طقطوقة إنتي فاكراني ولا ناسياني، وفيها يتكرر في آخر كل غصن من أغصانها ختام مطلعها، فمطلع الطقطوقة يقول: ليه تلاوعيني وانتي نور عيني، إيه جرى، إيه جرى، إيه جرى بينك في الهوى وبيني ليه تلاوعيني، لذلك اختتم كل غصن فيها بـ “إيه جرى ، إيه جرى، إيه جرى بينك في الهوى وبيني، ليه تلاوعيني”.
أنماط أخرى من الطقاطيق المبتكرة:
لم يكتف المرحوم محمد القصبجي بابتكاره فكرة دمج المذهب في آخر كل غصن من أغصان الطقطوقة بل ابتكر أنماطا جديدة من التعديلات وأدخلها على الطقاطيق لتخرج في النهاية بالشكل الذي خرجت به ومن قبيل ذلك:
طقطوقة فرق ما بينا ليه الزمان التي غنتها المرحومة أسمهان الأطرش من تأليف المرحوم علي شكري، وفيها لم يتوقف المرحوم محمد القصبجي عند حد تطويره المعهود بتبديل ألحان الأغصان أو دمج آخر المطلع بآخر كل غصن من أغصان الطقطوقة، بل تعدى بتطويره إلى فكرة جديدة وهي جعل أواخر كل أغصان الطقطوقة على لحن واحد، واستمع إلى تسجيل الطقطوقة حين تقول أسمهان:
تعالى شوف يا حبيب الروح، ده العمر كله بعدك هوان
إمتى يعود لي عهد الوداد، ده العمر كله بعدك هوان
أفرح بقربك وأنسى الأسية، ده العمر كله بعدك هوان.
كذلك طقطوقة بتبص لي كده ليه التي غنتها المطربة الجميلة ليلى مراد في فيلم غادة الكاميليا سنة 1941م، وقد طبق فيها المرحوم محمد القصبجي نفس فكرة التطوير التي اتبعها في لحن فرق ما بينا ليه الزمان، إذ تنتهي أغصانها الثلاث الأولى بأبيات مختلفة ولكنها كلها جاءت على لحن واحد إذ تقول:
ولا شفت الحب نايم جوه قلبي
إنت شفت الورد فتح عالغصون
إنت عايزني أواسي لك جراحك
وكل غصن من أغصان هذه الطقطوقة يختتم بخاتمة مطلعها الذي يقول” ما تقول لي قصدك إيه، بتبص لي كده ليه”، أما الغصن الرابع من أغصان هذه الطقطوقة، فقد غير المرحوم محمد القصبجي إيقاعه ولحنه عن بقية الأغصان، ولكنه ينتهي بإعادة مطلع الأغنية كله.
أما طقطوقة إمتى هاتعرف إمتى إني بحبك إنت التي غنتها أسمهان في فيلم غرام وانتقام سنة 1944م، فهي طقطوقة فريدة من نوعها ربما لا نجد مثيلا لها في الطقاطيق التي سجلت في القرن العشرين، ليس من حيث شكلها المطور فحسب بل للحنها البديع، وهذه الطقطوقة تحتوي على أغصان مختلفة الألحان إلا أنها تنتهي جميعا بنفس الكلمات على ذات اللحن حيث قولها: “ياللي غرامك في خيالي وبروحي ودمي، إمتى هاتعرف إمتى، إني بحبك إنت، إمتي هاتعرف إني بحبك إنت إنت إنت، إمتى إمتى هاتعرف إمتى، إمتى هاتعرف”.
وعن هذه الأنماط البديعة من الطقطوقة المتطورة على يد المرحوم محمد القصبجي يقل الدكتور فيكتور سحاب:
تتميز هذه الطقاطيق بعنصر مهم ابتدعه محمد القصبجي ألا وهو اللازمة الموسيقية قوية السبك التي تتكرر بين جميع الأغصان، مشكّلة العمود الفقري لهيكل الأغنية، ولعل أهم ما يميز اللوازم الموسيقية في هذا الشكل الجديد من الطقاطيق أنها ربما تكون العنصر الأهم في شكل الطقطوقة، لذلك لا يفوتنا أن نلاحظ أن لازمة الغصن الثالث من طقطوقة فرق ما بينا ليه الزمان إيقاعة ثلاثة على أربعة ليمهد للغصن الجديد الذي يقول” يا ريت فؤادك ” وإيقاعه هو الآخر ثلاثة على أربعة، كذلك يلاحظ أن اللازمة الموسيقية التي تسبق الغصن الرابع من طقطوقة بتبص لي كده ليه، تنتهي إلى نقر الإيقاع فلا تتكرر نهاية لازمة الأغصان الثلاث الأولى، التي تعد بداياتها تطويرا لحنيا بعضها للبعض، أما الغصن الرابع الذي يختلف كلامه كثيرا فيختلف لحنه كثيرا أيضا، لذلك قصد المرحوم محمد القصبجي أن يجعل لازمته الموسيقية على حدة.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال