سادات قريش.. أقدم مسجد في إفريقيا لم يبقى منه سوى “أطلال” مئذنته
إلى كل من يحمل في قلبه ذرة حُبٍ تجاه التاريخ وعبق الماضي وذكرياته، إلى الإنسانية جمعاء ومن يحملون رسالاتٍ سماوية كانت آخرها قبل تشييدي بنحو ثمانية عشر عامًا، إليكم جميعًا أكتب مرسالي هذا وعزائي الوحيد أنني بين حواري وأزقة شوارع مصر المحروسة، أجاور أهالي الشرقية الكرام ولا يزال يذكرني الجميع بالوصف الثابت على بوابة مدخلي: “مسجد سادات قريش أول جامع في إفريقيا”.
الأهل والأحبة، لعب الزمن لعبته اللعينة بجدراني وتاريخي، ولم يعُد باقيًا مني سوى قاعدة مئذنتي وأعمدة تاريخية ترفض الآثار حتى الاعتراف بأثريتها ويُشكك الجميع في أن المسجد الموجودة به بوابتي لا يحمل من تاريخي سوى العبارة المدونة فوق بوابته، وبين هذا وذاك تتراكم الأحجار التي انتزعوها من مئذنتي قبل أكثر من ثمانية وأربعون عامًا، تأثرت بفعل عوامل الزمن والرطوبة والأمطار، لكنها لا تزل كما هي في الباحة الخلفية خلف المسجد القائم، في المكان الذي يؤكد البعض أن أسفله رفات مائتي وخمسون شهيدًا، أربعين منهم صحابيًا جليلًا شهد على معركة الفتح واستشهد في أرض بلبيس.
الحكايات عني تطول يا أهل الأصول، ولكن قبل أن تأخذنا الحكايات إلى دهاليز وطرقاتٍ مختلفات، دعوني أحكي لكم حكاية ما عشته لأكثر من أربعة عشر قرونٍ من السنوات..
البداية كانت مع نهاية العام الثامن عشر بعد الهجرة، اتجه المسلمون برئاسة القائد عمرو بن العاص، إلى مصر، ولا أطيل عليكم، فبعد معركة بلبيس الشهيرة، والتي استشهد فيها مائتين وخمسون من الشهداء بجيش الفتح، بينهم نحو أربعين من الصحابة، وما إن انتهت الحرب، وكعادة أي حضارة كانت البداية بتشييد رمز الحضارة الإسلامة، وقتها تم تشييد المسجد على أرضيِ هذه، وبجوار المسجد، وعلى مسافة ليست بقريبة من المُصْلًى، تم دفن الشهداء، ولا أخفيكم سرًا، فإن الشاهد أنني شُيدت على غرار المسجد الثاني في الإسلام، ألا وهو المسجد النبوي بالمدينة المنورة.
كان محتواي حائط قوامه من الحصباء، وجزع نخيل، أما قبلتي فكانت الأدق بشهادة خمسة وعشرون صحابيًا تعاونوا في تحديدها وتأكيد دقتها، وظلَّ حالي على ما هو عليه لنحو قرنين من الزمان؛ عندما جرى ترميم جدراني للمرة الأولى في عهد الخليفة المأمون، وقتها كان العامة يُطلقون عليَّ لقب “جامع المأمون”، وهو اللقب الذي التصق هوَّ الآخر بالشارع، وذُكرَّ كذلك بتصاريح المحلات المجاورة لي حتى وقتنا هذا: “الموجودة بشارع المأمون“، قبل أن يتم تغيير الاسم فيما بعد لشارع بور سعيد.
ثمانية قرونٍ أخرى مرت عليَّ قبل أن ينتبه إليَّ الأمير العثماني مصطفى الكاشف، والذي أمر بتجديدي في العام الثاني بعد الألف الأولى من الهجرة، وشُيدت مئذنتي على أحدث طراز للحضارة العثمانية آنذاك؛ إذ بلغَّ ارتفاعها ثلاث دوارت، لكن كما يقول أبناء المحروسة “دوام الحال من المحال”.
مرت السنوات سريعًا بعد التجديد، ولكن مع نهاية القرن الرابع على تشييد المئذنة لاحظ المسئولين حدوث ميل في المئذنة لخصوا وصفه وقتها بأن المئنة باتت تُمثل خطرًا على حياة المواطنين وأهل المنطقة، ليتم إزالة الدورتين العليا والوسطى من المئذنة، ولا يبقى من أثرها سوى القاعدة.
لا أخفيكم سرًا أنه بقدر ما كانت الإزالة لدرء الخطر عن المواطنين والمارة، بقدر ما عبثت يد الإهمال فيما تبقى من تاريخي وأثريتي؛ فالباعة يحيطون بي وكأنني حصنهم الذي يأويهم ويعمي أعين رجال المرافق عنهم، وكلما حضرت الكاميرات لتصويري تعلقت أعينهم بالمراسلين وأهل الصحافة لئلا يكتبون عنهم ويقطعون أرزاقهم بدلًا من المطالبة بتطوير المكان والانتباه لي.
ما تبقى من كلماتي ربنا يحمل طابع الأساطير، لكن دعوني أَسْتَعِينُ هنا برواية الأهالي وأبناء المنطقة عني؛ إذ يزعمون وجود “كنز” أسفل مئذنتي، لكن لم يتم الفصل في ذلك لعدم فحص الأرض بـ”مجسات” رجال الآثار، ولكن حكايات الناس هنا تزعم كذلك وجود سرداب أسفل المسجد القديم يصل مدينة بلبيس بمدينتي “الخانكة” و”صان الحجر”، لكن أهل الآثار وصفوا ذلك بأنه محض “تخاريف” أطلقها الأهالي لجذب الأنظار إلى المنطقة وإليَّ، وكأن تاريخي وشهرتي لا تضمنان ذلك.
انتهت حكايتي لكن بقيَّ رجاءً أود منكم إيصاله لأهل الآثار ورجالات الدولة ومسئوليها؛ أخبروهم أن ما تبقى مني لن يستطيع مقاومة السنوات كثيرًا ما لم ينتبهوا لي ويرمموا جدراني ومئذنتي، وأوصوهم بي خيرًا فإنني في أرض الكنانة ولا يحق بي أن أُهمل هكذا.