نبيل فاروق .. وضعنا على أول طريق الحلم

في بداية ولعي بالقراءة، أو معرفتي بالكتب .. لم أكن أعرف أكثر من مكتبة أبي والعدد الأسبوعي لميكي جيب الذي يحضره أبي في طريق عودته من صلاة الجمعة، كان علي دائما أن أكون أول من يقرأه، وأحزن كثيرا إن سبقني أحد إليه وكأنه سينفذ أو سيتلف إن امتدت إليه يد قبلي، فقد كانت أعداد ميكي جيب هي كل ما يجعلني أشعر أنني كأبي وأخي أمتلك مكتبتي الخاصة.

اعتبر نفسي محظوظة للغاية، فأنا من الأطفال الذين كانت امهاتهن تقرأ لهن قبل النوم، حتى أغفو، كانت أمي تقرأ لي بمؤثرات صوتية هائلة ما يدور بين الجدة بطة والعم دهب، حتى إنني مازال بإمكاني حتى اليوم أن استرجع خيالي عن رائحة فطيرة التفاح التي كانت تضعها الجدة بطة على النافذة فيسرقها بندق في كل مرة، كل هذا كان قبل أن أتعلم القراءة.

تزور تلك الذكريات خيالي بخيال طفلة كانت مازالت تتعرف على العالم وتحدق برفوف الكتب أول شيء وتحاول تسلقها .. قبل أن أعرف الكتابة كنت أمسك بالقلم وأرسم خطوطا متصلة على سطر واحد، محاولة مني أن أسرع في التطور الطبيعي للتخلص من الحروف المفرطة وشبكها .. ألف بالتأكيد تعني أكثر كثيرا من ألف أرنب .. هكذا كنت دائما .. اتعجل أن تحدث كل الأشياء، ولذلك حينما تعلمت القراءة،كان أول كتاب قرأته من مكتبة أبي، كان “قلبي ليس في جيبي” لإحسان عبدالقدوس، كنت في السادسة من عمري وبالطبع لم أفهم الرواية بالمرة.

هل انتهى بسبب خيانة جنسية؟..ماذا عن زواج إسماعيل ياسين الأول

أنا الطفلة الصغرى بالمنزل، تلك التي جائت متأخرا للغاية عن اخيها واختها الأكبر، وكم جعل الفارق العمري بينهما حظي سعيدا، فقد ولدت وصوت منير وفيروز يتردد في المنزل من شرائط الكاسيت التي كان يشتريها أخي وأختي المراهقان وقتها، كان أخي يجلسني بجانبه ويسألني “فاهمة حاجة؟”، فأجيب لاء، فيفسر لي كلمات “الطول واللون والحرية”، ويطالبني أن أركز مع الموسيقى تماما وأغمض عيني وأنا أستمع لفيروز وهي تغني “بأيام البرد .. أيام الشتي” ، ولذلك حينما لمحني اتسلل لمكتبة أبي وأقرأ “قلبي ليس بجيبي”، كشف لي عن كنزه الخاص.

كان يمتلك كل ما صدر من أعداد رجل المستحيل، وملف المستقبل، والشياطين ال13 وكوكتيل 2000.. واحتل مكان أمي بجانبي قبل اليوم، ولن أنسى أبدا العدد الأول الذي اختار قرائته لي، كأخ أكبر لديه القليل من الشر وبخيال الطفلة قرأ لي عدد من ملف المستقبل، كان يسمى بـ”ظلال الفزع”، وبالرغم من أني لم أنم ليلتها تقريبا وأنا أتخيل الظلال التي كانت تحاول اللحاق بسلوى وصريخها المستمر.

أتخيل نفس تلك الظلال تحاول الإمساك بي وأخبئ قدماي أسفل الغطاء حتى لا تستطيع الوصول لي، إلا إنني لم أتمالك نفسي بعدها، وقمت بالسطو على مكتبته، لم يعد يكفيني عددا واحدا في اليوم، أو كتابا واحدا في اليوم، وتعرفت على رجل المستحيل، ن1، أدهم صبري .. فتى الأحلام الأول الذي لم يتجرأ الشيب حتى على أن يغزو أكثر من فوديه منذ كان أخي مراهقا وحتى أصبحت أنا في العشرين من عمري، أحببت سونيا جراهام أكثر من منى توفيق، فسونيا كانت امرأة لا تقبل بالأدوار الثانية، ولا يصيبها رصاصة فتهرع لينقذها أحدهم.

يوميات القلق .. اغلب التوتر بيوجا الضحك

وحلمت بأن أتزوج نور الدين بالتأكيد لأنه يستخدم أسلحة أكثر تطورا، ولغة أكثر تعقيدا .. عشت مع أبطال د.نبيل فاروق، حتى اكتشفت في أحد الأيام بالمكتبة الصغيرة المجاورة لمنزلي أعداد ما وراء الطبيعة و سافاري وفانتازيا، ليكتمل عالمي الخاص .. ليصبح سريري هو مكتبتي الخاصة .. ستجد عليه اجتماعا دائما ما بين نبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، ونجيب محفوظ، وتشارلز ديكينز، ودافني مورييه وجول فيرن وهنري جيمس، وتطلق أختي على لقبي الذي لم ينتزعه أحد مني حتى الآن .. “دودة الكتب”.

إقرأ أيضا

كيف فعلها يوسف؟

اسكندرية بتقول جومة .. يا ترى هي جومة ولا أستيكة؟

وبداخلي يبدأ حلم صغير بأن أكمل الطريق، وأشكل بيدي عوالم أخرى خاصة بي خرجت من كل كلمة قرأتها في عوالم من قرأت لهم، قراري بأن أعيد تشكيل العالم .. بأن أصيغ عالمنا بحروفي وكما أراه، ذلك الحلم والقرار الذي بدأ بعدد ملف المستقبل “ظلال الفزع” لنبيل فاروق، واكتمل حينما حدثني أحمد خالد توفيق عن لوركا وإدجار آلن بو.

نحن ذلك الجيل الذي عرف أدب المراهقين، جيل مكتبة الأسرة.. جيل يفقد رموزه تباعا .. تركنا نبيل فاروق وترك بنا الحلم.. والعرفان بالجميل.