همتك نعدل الكفة
602   مشاهدة  

مولودين سنة 90

كلمات


هناك كلمات تخترق عظام الجمجمة قبل أن تدركها الأذن، تنفذ إلى خلايا المخ مباشرة كالرصاصة هكذا أحسستُ ونحن جلوس في زحام من رواد المقهى الشعبي القريب من منزلي، عندما همس صديقٌ لي بمرارة مُنهيًا حديثًا لم أركز في كل تفاصيله بأن قال: إحنا شكلنا كبرنا أوي من غير ما ناخد بالنا، مبقناش عيال خلاص.

 

ظللتُ للحظات مشدوهًا كأنني للتو أدركتُ حقيقة لا أعرفها، مع أن بطاقتي الشخصية تخبرني بها كلما طالعتها في أي مناسبة؛ لا يمكنك أن تصف مَن تجاوزه عُمره السادسة والعشرون من السنين بأنه “عيل” بأي حال من الأحوال.

 

 مع استقبال سنة 2021 سيتم سب عام 2020 “ما حكم الدين في هذا”

 

طالعتُ ملامح صديقي المُرهقة، والتجاعيد التي بدأت تحفر طرقًا واضحة لها حول عينيه، والشيب الذي لم يعد خجولًا في خُصلات شعره، بالفعل، لم نعد عيالًا، ويا لها من حقيقة مُرَّة كالخديعة.

 

عدتُ للمنزل وظللتُ لأيام أتجنب النظر للمرآة بالتركيز، خوفًا من أجد في ملامحي مِثل ما وجدته في وجه صديقي.. التجاعيد وبعض الشعر الأبيض، والأهم، نظرة من عرف مُبكرًا ما لم يجب عليه أن يعرفه عشتُ لسنوات معتقدًا أن السن الـ30 هذا بعيد جدًا، ياااه إحنا فين والـ 30 فين!.

 

ثم تدرك فجأة أن هذا الرقم لم يعد بعيدًا كما كنتَ تظن، ها أنت تزحف إليه بتصميم وسرعة فائقة كأنك تنزلق فوق منحدر، بل إن بعض زملاء المدرسة ممن كانوا يكبرونك ببضع سنين وصلوا إلى مرحلة الثلاثينيات، بكل ما يتضمنه الأمر من رهبة، رهبة انفلات الزمن من بين أيدينا.

 

وينفلت من بين إيدينا الزمان

كأنه سَحبة قوس فى أوتار كمان

وتنفرط ليّام.. عقود كهرمان

يتفرفط النور.. والحنان.. والأمان

وينفلت من بين إيدينا الزمان

 

من كلمات “سيد حجاب”- مقدمة مسلسل “أرابيسك”

 

بعيدًا عن التفلسف وأشجانه، أحيا مع أبناء جيلي معضلة من نوع خاص، وربما هي معضلة تتشابه كثيرًا مع معضلة أجيال سبقتنا، وظنها أهلها معضلة خاصة أيضًا، لكنها معضلتي ومعاناتي الشخصية، لذا سأنحاز لخصوصيتها وتفرُّدها، أيستحق أي شيء تعاطفي أكثر من معاناتي الشخصية؟

 

مواليد النصف الأول من التسعينيات هم أبناء الفهم المُبكر؛ بما يحمله من مرارة وصدمة، أدركنا الأوجه القبيحة للأشياء بسرعة، بسرعة تفوق قدرتنا على الاستيعاب أو حتى الحزن الكامل بهيبته، صِرنا نتجاوز كل شيء بسرعة، لا وقت للمعاناة، تعرف أكثر مما يجعلك تستمتع بنعمة الجهل وأقل مما يحميك من السقوط مجددًا، فالاستيعاب الكامل للألم يستلزم براحًا لا نملك رفاهيته غالبًا، اكتسبنا ثقل المعاناة دون أن نستمتع بالقدر الكافي من الحكمة، صارتْ حكمة معظمنا الخالدة أنه سيظل يقع في ذات الأخطار للأبد تقريبًا، كما أدرك معظمنا أن الحياة أعقد كثيرًا عما أخبرونا به، فالبشر لا يفترقون بالكراهية المُتبادَلة، بقدر ما يفترقون بالحب الذي يُؤذي عندما يكون مُشوهًا وإن صدقت النوايا، وأن الأهم من وجود الحب أن تجد إنسانًا سويًا من الأساس لتستأمنه على روحك، وتشارك الحياة معه، وتحبه دون أن يؤذيك.. المهم، لابد أن تنجز، اعمل وأنت تبكي لا مشكلة، لقد نشف عودك ولابد أنك تعودت؛ انهارتْ رموزنا أمامنا، ودفنا في قبور عميقة داخل قلوبنا محبتنا الصادقة لمَن خانوا نفس المبادئ التي زرعوها بداخلنا عبر فنونهم المختلفة، قررنا أن نكتفي بحب فنهم ونترك حسابهم ليوم الحساب.. أنت ابن للتكنولوجيا بكل منجزاتها، “بس مش أوي”؛ من يصغرونك سنًا بعشر سنوات تجاوزك بسنين ضوئية في التعامل والتماهي مع التكنولوجيا وأدواتها.. هل جربت أن تجالس شخصًا وُلد عام 2002 مثلًا؟ ستشعر أنك عجوز جدًا.

 

 أهرامات مش في الجيزة.. أغربهم موجود على سطح المريخ

 

إقرأ أيضا
البيت بيتي الجزء الثاني

بالنسبة لأبناء الأجيال السابقة لكَ، لا زلتَ طفلًا لا تعرف الحياة، وبالنسبة للأجيال اللاحقة لكَ مباشرة، أنت مجرد عجوز آخر منفصل عن عالمهم واهتماماتهم بل وحتى لغتهم وألفاظها.

 

مأزق أن تشعر أنك أسير بين مرحلتين لا يجمعهما أي شيء مُشترك، كأنّك مُعلَّق بحبل لا مرئي في الهواء.

 

الأمر ليس مأساويًا تمامًا، على الأقل أرى أننا، أبناء النصف الأول من التسعينيات، أكثر إدراكًا للكثير من الأشياء على حقيقتها، بلا تهويل أو تهوين، نتعلم أسرع، بثمن أكبر طبعًا، المهم أن نتعلم ولا تصبح الأثمان المدفوعة من صحتنا الجسدية والنفسية مُهدرة بلا عائد.. تعلّمنا الكثير وسنتعلم الأكثر بإذن الله.. شخصيًا أهم ما أدركه الآن أن سن الثلاثين- الذي لم بعيدًا أبدًا- ليس سن النُضج كما سمعتُ كثيرًا في طفولتي، لن تصبح عاقلًا صاحب قرارات مُتزنة دومًا لمجرد أنك تجاوزت الثلاثين من عُمرك، ولا يوجد سن معينة يحمي من تجاوزه من ارتكاب الحماقات والأخطاء.. ربما تختلف حماقات كل مرحلة عمرية عما سبقتها، لكن مَن قال أنه يمكن الوصول أساسًا للحكمة المُطلقة؟ وهل تصبح الحياة عندها حياة أساسًا؟ هل يوجد حياة بلا أخطاء.

 

 سـ 18″ .. المنقذ الأسطوري “

 

ستخطئ، وتصيب، وتقع وتقوم، وتقوم وتقع.. يبدو أن هذا سر جمال الحياة وجاذبيتها رُغم قسوتها في أحيان كثيرة؛ أنها تمنحك الكثير من الفُرص المتجددة.. والأمر يتوقف على اختياراتك.

 

المهم أن تحاول بصدق أن تعيش الحياة بالفعل، ولا تستمر كثيرًا على وضعية “عايش والسلام”.. حاول تعيش.نحاول؟ نحاول.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
5
أحزنني
1
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان