همتك نعدل الكفة
333   مشاهدة  

فن الحوار الغائب .. العمر قصير للغاية

الحوار


العمر قد يكون أقصر مما يتخيل أى منَّا.. وقد يمضى قبل أن تكتمل معرفة الإنسان بسلوكياته الحوارية التي تعود على استعمالها في تواصله مع الآخر، والتي تحدد بدقة النمط الحوارى الذى يمثله.. وطالما يظلم الإنسان ذاته، بمغافلتها وإسقاط عيوب سلوكياته ونمطه الشخصى فى الحوار على الآخر.. وظلم الذات يظل دائمًا المتسبب الأول في ظلم الآخر.. أي آخر..

وكي نتجنب التسرع الذي يميز هذا العصر.. يجب أن ندرك إن إتقان فن الحوار البناء دون مواراة أو مواربة أو التواء يُعَدُّ رحلة طريق طويل.. تحتاج للتدرب علي تنظيم الأنفاس.. وإدراك واضح لطول المسافة حتى الوصول إلى الهدف.. تمامًا كسباقات الماراثون..

من صفات هذا الطريق أنه شاق.. لأنه يستوجب بداية مراقبة النفس بتركيز وتمَعُّن.. لكنه طريق كفاح نبيل ومشرف من أجل احتفاظ المرء بإنسانيته وسط غابة شرسة تتحكم فيها فوضى التواصل..

وإليك خطوات علمية مجرَّبة على هذا الطريق.. يَحسُن اتباعها بهدوء وصبر وثقة في نبل الغرض:

المرحلة الأولى:

– خاطب ذاتك بعد أن تختلي بها في هدوء.. محاولاً التواصل معها والإنصات لما يدور بداخلها، والنجاح في أن تُمَيِّزُ “صوتها الأصلي” من بين أصوات كثيرة بداخلك..مُدَوِّية فى عقلك وقلبك..تأتي من البيئة الخارجية.. تجتهد في اللاوعي في انتحال صوت ضميرك، وتجتهد في تقليد صوته طوال الوقت..

– إن استطعت تمييز صوت ذاتك والتعرف على ما تقوله بوضوح، مراعياً أن ذلك يحدث عادة بعد محاولات شاقة مليئة بالعزم وإخلاص النية فى المعرفة، أو قد يحدث فى لحظة إلهام تختفى بنفس السرعة التى تظهر بها، فتلك علامة أنك على الطريق السليم.

– لا تفرح وتكتفي حينما تستطيع تمييز “الصوت الأصلي” لذاتك.. بل خُذ كل الوقت في إعادة تلك التجربة في مواقف مختلفة حتى تتثبَّت تمامًا من أنك لا تميزه فقط.. بل تسمعه بوضوح شديد.

– احرص على توليف الموجة الفريدة التى تستقبل عليها صوت ذاتك فى وجدانك، وإياك أن تخدعها بعد ذلك بالتظاهر بعدم تمييز صوتها؛ كى لا تخدعك.. فأنت وذاتك كيان واحد.. وإن لم تتسق معها.. فسوف يشقيك انقسامك عليها فى تواصلك الإنسانى مع الآخر ما حييت..

– استرجع بدقة كمثال آخر حوار طويل قمت به مع آخر، يختلف عنك فى الدين أو التوجه السياسى أو المنظومة القيمية.

المرحلة الثانية:

سَل نفسك الأسئلة التالية.. واحرص على تحري الصدق في إجابتك.. فلا أحد يراقبك إلا ضَمِيرُكَ..

– هل أعجز أحياناً كثيرة عن توصيل المعنى المراد؟ هل أفتقد شجاعة المواجهة الصحية؟ هل أمارس أحياناً التأويل والانتهازية، طبقاً لمجريات الحوار؟ وإن كنت أفعل ذلك فهل أعتبر تلك مقامرة باللعب على الحبال المختلفة؟ إن كانت الإجابة “بأحياناً”، فهذا النمط الحوارى يدعى “الصمت والغموض السلبي”، والذى يتخفى كثيراً تحت قناع مكتوب عليه “الحكمة والوسطية فى الحوار”.

– هل أعتبر كل حوار كمناظرة أهدف فيها للانتصار لوجهة نظري التى أراها حق لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه؟ وهل أتطرف بالأمر إذا احتدم الحوار إلى محاولة سحق وتشويه الآخر وإقصاءه؟ وهل أهدف بذلك إلى السيطرة والهيمنة؟ إن كانت الإجابة “بأحياناً”، فالنمط الذى تمارسه يدعى نمط “التناحر”، وما تمارسه من خلاله فى الحوار يطلق عليه قواعد “المباراة الصفرية”، التى لا كاسب فيها إلا الباطل.

– هل أتحدث كثيرا عن الماضى فى حواراتى، بينما لا أطبق الدروس التى تعلمتها منه فى حياتى العملية ونظرتى للمستقبل؟ هل أطمئن إلى أدواتى الفكرية، معتقداً أنها الأكثر تطوراً ودقة؟ إن جائتك الإجابة “بنعم” واضحة، فإن ذلك ما يطلق عليه نمط “غيبوبة الماضى” فى الحوار.

– هل أدخل فى حواراتى مع الآخرين بصور ذهنية نمطية وتصورات مسبقة عن أطراف الحوار، والأحداث المتوقعة خلاله؟ وهل تهيمن تلك التصورات على ذهنى، وتحد من حسن استماعى وتفكيرى الموضوعى؟ الإجابة “بغالباً” تعنى التأثر بنمط “الفكر التآمرى”، وهو نمط سائد فى المجتمعات الشرقية.

– هل أتشدق فى حواراتى كثيراً بمقولات تعطى الانطباع باحتكار الحق والحقيقة فى كل ما أقول؟ التردد فى الاستماع إلى إجابة الذات على هذا السؤال هو دليل على تأثر بنمط “التسلط”، والذى يعد نتاجاً لترسخ ثقافة الاستبداد فى الرأى، وغياب الديمقراطية، وهو من أكثر الأنماط انتشاراً فى أوقات تشتد فيها الصراعات المجتمعية.

– وأخيراً اسأل ذاتك تلك الأسئلة:

هل أستسلم باستلاب ملحوظ إلى خط فكرى مقدم من أحد الأطراف الآخرين الرئيسيين فى جلساتى الحوارية؟ هل أنا منغلق عادة على نظام قيم دينى أو عالمانى بصورة متحجرة؟ هل أعجز عن إدراك البدائل المطروحة وتقييمها بموضوعية؟ هل أُسقطُ أكبر الإشكاليات والمحن على شخص أو فصيل بعينه، دون أن أنظر غالباً إلى الجذور التاريخية والأسباب الجوهرية لتلك المحن؟ وإذا كانت إجابات الذات ولو جزئياً “بنعم”، فإن ذلك ما يُعَّرَف فى الحوار بنمط “الاستلاب والإحباط”. ….. بعد تلك الرحلة مع الذات للتعرف على طبيعتها الحوارية، إن رصدت فيها بشفافية أحد تلك الأنماط أو “كوكتيل” متنوع النسب منها، فاعلم أنك كإنسان تقف بذاتك على بعد خطوات من باب الخروج إلى نهار التواصل الحوارى المتحضر، الذى يليق بإنسانيتك. … تذكر دائمًا إن ما اكتسبته على طريق التعرف على ذاتك الحوارية مجرد خطوات على الطريق.. وليكن دائمًا طريقك ذاته وما تكتسبه عليه من خبرات هو هدفك.. بذلك تتجنب تضليل الذات..

 

إقرأ أيضاً

مايسة المثال الحي أن لغة الحوار تفيد أحيانًا

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان