همتك نعدل الكفة
509   مشاهدة  

ملف العيش : (اللقمة الرابعة) .. أحن إلى خبز أمي

خبز
  • ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



في منزل العائلة الكبير كان كل يوم في الأسبوع معروف بروتين ثابت المختلف عن الآخر، غير مسموح بتخطيه أو تبديله بروتين أخر مهما كانت الظروف.

(1)

كنا نعرف اليوم من روتينه الخاص، يوم السبت مثلاً لن تنعم بنومًا هادئًا حتى لو كنت في إجازة الصيف حيث سيجبرك صوت غسالة الملابس الهادر الذي يشبه آلة الطحين على الاستيقاظ رغمًا عنك، يعقبه وصلة تعذيب تتضمن تغيير ملاءات الأسٍرة وفك الستائر، ثم الوقوف صفًا حاملًا ملابسك المتسخة بعد أن قمت بفصلها عن بعضها البعض، الفواتح في جانب والغوامق في جانب، غير مسموح بالعودة إلي النوم مرة أخرى، وأن حاولت فلن تجد شيئا مفروشًا على سريرك في عادة مصرية متأصلة في إبقاء المراتب عارية دون غطاء أثناء الغسيل، وكأن تغييرها في الليلة التي تسبق يوم الغسيل جريمة وإلحاد أسري.

صرنا نكره يوم السبت الذي أطلقنا عليه يوم الاحتلال، فكل ركن في المنزل محتل من قبل نساء الأسرة بما فيهم حمام المنزل الذي يعتبر ساحة معركة الغسيل الرئيسية، وأن أدرت أن تلبي نداء الطبيعة ما عليك سوى الانتظار طويلًا حتى يتم إخلاء المكان بعد وصلة تقريع وسباب أو المجازفة بالصعود إلى أحد الأدوار العليا التي كانت حكرًا على الجيل الأكبر من العائلة حيث ممنوع الاقتراب منها أو الدخول إليها إلا بإذن من أحدهم.

(2)

كنا نسكن في منزل كبير يقع داخل المدينة، ورغم سيطرة الحياة المدنية على الحياة داخل المنزل ظلت هناك عادات ريفية محببة لازالت تحتفظ بها أمي، أهمها على الإطلاق هو حرصها الدائم على تخصيص يوم في الأسبوع لصنع خبزًا منزليًا شهيًا مثلما اعتادت أن تفعل في صباها في قريتها الصغيرة.

 كنا لا نشتري خبزًا على الإطلاق، بل لم نكن نعرف طعم خبز الشارع مطلقًا، لازلت أتذكر أول مرة دخلت فيها مخبزًا كان صحبة صديق ألح علي في الذهاب معه لتسليته أثناء الانتظار في طابور طويل يمتد لأكثر من خمسين فردًا، وقتها عرفت قيمة ما تفعله أمي من أجلنا ودعيت لها كثيرًا بأنها أعتقتنا من أسر الوقوف في تلك الطوابير المملة والتي غالبًا ما تنتهي بعراك أو يصدمك البائع بنفاذ الخبز.

لم أعرف سببًا لاختيار يوم الخميس لإعداد الخبز، يبدو أن الأسبوع كان يصالحنا بهذا اليوم بعد أن كان يبدأ بمعركة غسيل السبت، كانت لأمي طقوسًا ثابتة أثناء إعداد الخبز المنزلي، كانت تبدأ تلك الطقوس من يوم الأربعاء، حيث ترسلنا في صباحه إلي أحد صانعي الأقفاص الخشبية لجلب مخلفات جريد النخل حيث سيكون الوقود الذي سيشعل به الفرن البلدي الذي كان يعلو سطح منزلنا الكبير.

بعد العصر تخيرنا أنا وأخي الذي يكبرني بعامين، ما بين الذهاب إلى العمة “أم حسن” التي كانت تساعدها في صناعة الخبز، أو الذهاب لشراء الخميرة البلدي التي تسرع من عملية نضج العجين، في الغالب كنت اختار الذهاب لشراء الخميرة لأنه المشوار الأقرب.

اقرأ أيضًا 

أين كانوا ولماذا اختفوا .. خالد عجاج ورحلة الصعود إلي الهاوية الجزء الثاني 

(3)

تبدأ الطقوس بجلب جوال الدقيق من غرفة التخزين التي تحتوي على أجولة كثيرة من دقيق القمح كان يجلبها لنا خالي الذي يعمل مديرًا لأحد المطاحن الحكومية، ومن ثم تبدأ في نخل الدقيق أكثر من مرة بعدة مناخل متفاوتة في حجم فتحاتها، ثم تبدأ في خلط دقيق القمح مع القليل من دقيق الذرة في وعاء ضخم من الألمنيوم ثم تغطيه وتتركه حتى الفجر.

خبز

رغم أن الفرن البلدي الموجود على سطح المنزل يشبه في هيئته الأفران الأخرى، إلا أنه كان مختلفًا تمامًا في طريقة إشعاله، على جانبيه من الأعلى يوجد خزانين من المعدن يتم ملئها بمادة مشتعلة “الجاز” ويتدلى من كل خزان ماسورة طويلة واحدة تمر إلى الفتحة العليا والأخرى إلي الفتحة السفلى.

 كانت مساهمة أبي في صناعة الخبز المنزلي هي الصعود بعد صلاة عصر يوم الأربعاء لتفقد الخزانين مستخدمًا عصا طويلة تشبه عصا قياس الزيت في السيارات، ليعرف كمية الجاز الموجود في كل خزان , وتسليك أي انسداد في الفواني “جمع فونيا”  داخل الفرن، ومن ثم تجربة إشعاله للتأكد من أن كل شئ على ما يرام.

(4)

يبدأ يوم الخبيز مبكرُا حيث تستيقظ أمي في الفجر ومن ثم تبدأ صب الماء الساخن على الدقيق والبدء في خلطهما، تضع بعض الملح و السكر على الخميرة و تفركها بشكل جيد، ثم تنتظر العمة “أم حسن” التي تلحقها قبل مرحلة العجن حيث يبدأ في لكم العجين داخل طشت الألومنيوم الضخم، ثم تركه يختمر على مهل ويعدا الإفطار ثم إيقاظ أخواتي البنات كي يقمن بحمل العجين إلى سطح المنزل.

كنا نستيقظ متأخرين قليلًا في هذا اليوم، حيث نجد المنزل خاويًا على عروشه، نصعد إلى السطح وتقابلنا رائحة العيش الساخن ومن فرط حلاوته كنا نأكله وحده، ثم نبدأ في الزن على رغيف ساخن مملوء بالسكر أو بالبيض تصبيرة قبل وجبة الغذاء التقليدية التي كانت تتكون من صينية بطاطس باللحمة بجانبها أرز معمر.

إقرأ أيضا
بركياروق والحشاشين

كان يخرج من الفرن ثلاثة أنواع من الخبز “خبز ناشف – خبز طري – وخبز آخر نطلق عليه في مدن الدلتا “كوماج” وبالمناسبة كان الأشهى والأطعم فيهم.

كنا نخزن الخبز الناشف في أقفاص من الخوص والجريد، حيث نقوم بعد العصر بتفريغه من بقايا خبز الأسبوع السابق، ثم رصه بهدوء حتى لا ينكسر ثم النزول بالأقفاص إلي الدور الثاني حيث كان يتم تخزينه فيها، أما بقية الأنواع فكانت تخزن في الطشت الألمونيوم بعد غسله من بقايا العجين ثم تغطيته بقماشة طويلة حتى يظل طريًا لفترة طويلة.

خبز
الكوماج الفلاحي المنتشر في قري وريف الدلتا

(5)

عندما انتقلنا إلي منزلًا جديدًا استبدلت أمي الفرن البلدي بآخر أحدث يعمل بالغاز الطبيعي وظلت محافظة على روتين الخبيز لكن على فترات متباعدة بحكم السن.

لازلت أذكر آخر مرة ذقت فيها خبز أمي الساخن قبل رحيلها بشهرين، عندما قررت فجأة وبدون مقدمات أن تصنع بعضًا منه في أحدى الليالي، ونبهتني إلي التفرغ لمساعدتها حيث لا تريد أحد معها سواي.

كانت آخر مرة هي أسرع مرة صنعت فيها خبز، كانت تعمل بكل كد ودون كلل، تزمجر وتصيح علي أن تركتها لاتفحص هاتفي أو لأعداد كوبًا من القهوة ريثما العجين يختمر، وعندما انتهينا قامت بتقسيمه بالتساوي في أكياس منفصلة لتوزيعه على أخواتي وتركت لي ولها ربع ما صنعناه تقريبًا.

كنت أسخر من قصيدة درويش “أحن إلى خبز أمي” و أراها مبالغة منه، لكن الأن كلما أنتظرت في طابور الخبز لشراء عدة أرغفة لا أعرف كيف مما صنعت وكيف صنعت، أتذكر أمي واتذكر قصيدة درويش و يرن في أذني صوت مارسيل خليفة “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي”. 

الكاتب

  • خبز محمد عطية

    ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان